|
|

العشق السينوي
د. راوية جاموس
استطاع ابن سينا أن يبني مفهوماً متكاملاً في العشق لم يُسبق إليه انعكست فيه ثقافته الموسوعية بشكل كبير، ويتبيَّن من خلاله النظام الكوني الدقيق والمتكامل الذي أبدعه الله، ومكانة الإنسان فيه. ويتلخَّص مفهوم ابن سينا في العشق في رسالة أفردها له جمع فيها معظم آرائه فيه.
يدل العشق في لسان العرب على اللصوق واللزوم، فهو يدل على لزوم الشيء وعدم مفارقته، ولهذا قيل للكلف عاشق للزومه هواه. وإذا أخذنا الدلالة اللغوية لهذه الكلمة، وهي اللصوق بالشيء وملازمته إياه، تمكّنا من التقريب بينها وبين الاصطلاح السينوي.
فالعشق بمعناه الاصطلاحي العام لدى ابن سينا، قوة غريزية محرّكة تسري في كل الموجودات وملتصقة بها وملازمة إياها لا تفارقها أبداً، وهي تدفعها جميعاً نحو خيرها وكمالها، وتصرفها عن الشر والنقص .
فقوة العشق قوة دافعة مغروزة في كل موجود من الموجودات، وملتصقة به، وملازمة له. وبذلك تلتقي هنا الدلالة اللغوية للعشق مع معناه الاصطلاحي لدى ابن سينا. وقد ذهب مختار بولخماير إلى أن مصطلح "قوة" بلغة ابن سينا الذي استخدمه في تعريف العشق، يُقابَل في لغة الفيزياء اليوم بـ "الطاقة" . ويمكن أن نفهم ذلك من خلال أنَّ هذه الطاقة هي "الطاقة الحيوية" في بعض جوانبها. والطاقة الحيوية هي إحدى دعامات الحياة في كل الكائنات من المجرة إلى الذرة، وهي التي تحرِّك الموجودات نحو حاجات وجودها وبقائها. وقد أطلق حكماء الصين على هذه الطاقة السارية في الجسد اسم "تشي"، كما أطلق عليها اليابانيون اسم "كي"، وذهب حكماء الهند إلى أنَّ هذه الطاقة هي التي تولّد حيوية الجسم وحواسه وكل ما يتعلق بحيويته. ويشدِّد الباحثون في الإنسان اليوم على كلية الإنسان ووحدته وتفرُّده، ويشيرون إلى وجود مفهوم حيوي في الكائنات الحية جميعاً لا يمكن تفسيره عن طريق وصف الظواهر الفيزيائية والكيميائية في الجسم؛ إذ تميل الكائنات الحية جميعاً إلى تأكيد ذواتها باعتبار أنَّ كلاً منها يشكّل وحدة عضوية تتألَّف من وحدات أصغر تتداخل فيما بينها في تفاعل حيوي مستمر . إنَّ هذا المفهوم الحيوي هو الطاقة السارية في الكائن الحي التي يمكن أن نطلق عليها اصطلاح ابن سينا "العشق".
وتكمن أهمية قوة العشق لدى ابن سينا في أنَّها السبب في حركة الموجود نحو الحصول على أسباب وجوده والاستمرار فيه، ولولاها لانعدمت إمكانية استمراره في الوجود. وهي بهذا تقوده نحو الخير والكمال، فحصول الموجود على حاجات وجوده الطبيعية من طعام وشراب وتوالد ونوم واستراحة ونحو ذلك، هي خير الموجود لأنَّه يحصل بها على كماله المناسب لنوعه، فلكل موجود خير خاص به وكمال مناسب لنوعه، ولولا وجود هذه القوة المحرّكة لما كان بإمكانه الحصول على ما يجب أن يحصل عليه من خير وكمال ولاختلَّ وجوده.
|
|
|
|
|