للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

أضواء خاطفة على طبيعة الخط العربي ونشوئه وتطوّره

د. محمد إسماعيل بغدادي

 تُعدُّ كتابة الخط من الفنون الصعبة التي هي بحاجة شديدة إلى المهارة الفائقة والموهبة والدراسة والتحصيل والممارسة والتدريب، ولذلك فالخطّاط الماهر يحتاج إلى ساعاتِ عمل طويلة يوميًا لتجويد خطّه، وتحسين مستوى أدائه الفني، لدرجة أنه لا يستطيع أن يتوقّف يومًا واحدًا عن مزاولة مهنته المحبّبة إلى نفسه، وهو في كل يوم ، بل في كل لحظة تخطر في باله بعض الأقوال والعبارات أو أبيات من الشعر أو ما عداها ، فيرغب في كتابتها والاجتهاد في إنجاز أدائها الفنّي على أكمل وجه.

وتروي كتب التاريخ والفنّ، رواية مشهورة، عن الخطّاط التركي الحافظ عثمان -الذي كتب المصحف الشريف عدة مرات متتالية قوله في هذا الصدد: "لو عُرِضَت عليَّ الخطوط المختلفة التي أكتبها طوال الأسبوع، لعرفت بحاستي الفنّية من بينها خطوط يوم السبت، لأنها تكون أقلّ مرونة من خطوط بقية أيام الأسبوع بسبب توقفي عن الكتابة يوم الجمعة".

وهذا يصوِّر مدى إجادته حذق هذا الفن والمهارة الفائقة في معرفة الفروق بين الخطوط، والأوقات التي تتم فيها عملية الولادة الفنيّة.

الخطّ العربي فنّ من الفنون الجميلة، بَرَع فيه أجدادنا، زينّوا بلوحاته جدران منازلهم وقصورهم، فضلاً عن جدران المساجد، فأسبغوا عليها روعة وجمالاً.

ولقد عبّر الخط العربي خلال مساره الطويل عن ملامح الحضارة العربية والإسلامية، فكان كالكائن الحيّ ينمو ويترعرع ويتجدّد باستمرار.

طبيعة هذا الخط

الخطّ عِلم، لأنه يعتمد على أصول ثابتة وقواعد دقيقة، تستند إلى موازين وضعها الأقدمون.

والخطّ فنّ، لأن محوره الجمال في التعبير، يتوخّاه ويهدف إليه، كما يتطلّب استعدادًا فنيًَا، يقوم على دقة الملاحظة والانتباه والقدرة على المحاكاة، وهي أمور صميمية في الفنّ، ومما يلاحظ أن التعبير في هذا الفنّ يختلف من خطّاط لآخر، حتى أنه يختلف عند الخطّاط الواحد من فترة لأخرى، نظرًا لتغيّر الانطباعات النفسية والمشاعر.

والخطّ فلسفة ، لأنه لكل نوع من أنواعه فلسفة خاصة، عبّرت عن فلسفة مجتمعها وطبيعته، ففي الخط الكوفي -الذي كان يُكتب به في العصر الجاهلي- نلاحظ خطوطًا مستقيمة وقاسية، عبّرت عن قسوة الحياة الجاهلية القديمة.

وفي الخطّ الثلثي في العصر العباسي، نلاحظ تعقيدًا في الحروف، وجمالاً في الشكل، تتلاءم مع أحوال العصر العباسي بما فيه من تعقيدات الحياة وروعة الحضارة.

وفي اختراع الخطين "الرقعي" و"الديواني" في العصر العثماني، نلاحظ ضرورات اجتماعية تمثّلت في الوضوح والسرعة، الأمر الذي دعا لهذين النوعين، فجاءا معبّرين عن فلسفة اجتماعية معيّنة[1].

الخط العربي والفنون التشكيلية

استحقّ الخطّ العربي أن يحتلّ مكانة سامقة في سلّم الفنون التشكيلية على الصعيدين العربي والعالمي، وأن يلفت أنظار عمالقة الفنّ والرسم في الغرب، وأن يحظى بمتابعةٍ وحضورٍ داخل أروقة المعارض الدولية.

ولكن الواقع العربي - مع شديد الأسف- يشهد انحسارًا لرقعة الخطّ العربي في الذهنية العربية بوجه عام، وفي خيال ووجدان الناشئة على وجه الخصوص.

ومن ثَمّ فإن المكتبة العربية تعاني نقصًا شديدًا في الكتب والمراجع التي تتناول الفنّ العربي بالدرس والمتابعة والتمحيص والتحليل والتأريخ، ولهذا فإن الخطّ العربي جسدّها - بعمق - في لوحات ومخطوطات تحمل سمات الفن العالمي والروح الشرقية ، صافية النقاء أيضًا، بخلاف الواقع الراهن الذي يطبع نفسه بطابع إهمال جماليات الخطّ العربي.

أثر الإسلام في تطوّر الخط العربي

من المؤكد أنه كان للدين الإسلامي أكبر الأثر في تطوير الخطّ العربي، حيث إن القرآن الكريم قد دُوِّنَ به وانتشر بواسطته، وكذلك الأحاديث النبوية، فأصبح يحمل قدرًا من القداسة عند كل عربي ومسلم.

كذلك، فإنّ لانتشار الإسلام في مشرق الأرض ومغربها، ودخول أقوام كثيرة فيه، وسعي كل قوم وكل قطر إلى أن يميِّز نفسه بخطّ معين، فضلاً كبيرًا في وفرة أنواع الخطوط وغنى الأساليب التشكيلية[2].

ولا ننسى ما للفنّان المسلم المتديّن من باع في هذا المجال، إذ نراه يُفرغ أقصى ما لديه من تجليّات الروح على خطوطه، فيبدع أيما إبداع، ولذلك نجد لفظة الجلالة أو البسملة يتسابق الخطّاطون في كتابتها بما لا يخطر على بال من الأشكال والإبداعات الخطّية، وقد وقع نظري على كتابٍ تركي قد جمع بين دفتيه مئات من أشكال الخطّ المتنوعة لكتابة البسملة وقد سمًاه المؤلف بحديقة البسملة (The Garden Of Besmelah).

ولا غروَ أن اهتم الفنّان المسلم بما حضّ عليه القرآن والأحاديث بشكل متواتر، وكأنّ في انتشار التأييد الواسع للخطّ وللكتابة ما يعوِّض عن اتجاهٍ بات معروفًا عند الإسلام وهو يتمثّل بكراهة الرسم والنحت، لا بل بالتحريم أحيانًا، ومهما يكن من أمرِ الأحاديث المتواترة حول هذا الموضوع وما فيها أحيانًا من مغالطات أو بُعدٍ عن الدقة، فإن الإسلام نهى بالإجمال عن الرسم الذي يقارب أشكال الأصنام[3].

اقرأ باسم ربك الذي خلق

هكذا بدأ التنزيل يُنبئ عن منزلة القلم عند الله وعن منزلة ما يكتب بالقلم، {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[4].

ويروى أن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) مرّ يومًا برجل يكتب المصاحف فقال: (أجلل قلمك)، فقصم منه قصمة ثم كتب، فقال علي (عليه السلام): نعم هكذا، نوِّره كما نوَّره الله[5].

وروي كذلك أنه قال : (الخطّ الحَسن يزيد الحقّ وضوحًا)[6].

نسب إلى ابن عباس أنه فسّر إثارة العلم بأنها الخطّ[7].

ونسب إليه أيضًا: الخطّ لسان اليد، وبهجة الضمير، وسفير العقول، ووصي الفكر، وسلاح المعرفة[8].

وقد أوصى عبد الحميد الكاتب الكتّاب في رسالته الشهيرة إليهم فقال:

وابدأوا بعلم كتاب الله عز وجل، والفرائض، ثم العربية، فإنها ثقاف ألسنتكم، ثم أجيدوا الخطّ فإنه حلية كتبكم[9].

وقال في مكان آخر: القلم شجر ثمرته اللفظ، والفكر بحر لؤلؤه الحكمة، والبلاغة منهل فيه ريّ العقول الظامئة، والخطّ حديقة زهرتها الفوائد البالغة[10].

كان المتأخرون يرجعون بسلسلة مُعلّميهم إلى معلّم للخطّ واحد، منه اقتبسوا الخطّ وعنه أخذوا أصوله الأولى، ولم يكن هذا المُعلّم سوى الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) [11].

وقد دوّن لنا غير مصدر عربي ما كان للإمام عليّ (عليه السلام) من فضل في تعليم الخط، فهو يأمر بقطِّ القلم قطّة جليلة، - كما سبق القول - وروي أنه قال لعبيد الله بن أبي رافع، وهو أحد الخطاطين في زمانه : (يا عبيد الله أَلِقْ دواتك، وأَطِلْ سِنَّ قلمك، وفَرِّج بين سطورك، وقرمِط حروفك، والزَم الاستواء[12].

ولا يستغربنّ أحد ما للإمام علي (عليه السلام) من فضل في نشر كثير من العلوم، والرسول (صلى الله عليه وآله) قال فيه: (أنا مدينة العلم وعلي بابها).

يتبع ←

الهوامش:

[1] - معروف زريق، كيف نعلّم الخط العربي، دمشق ، دار الفكر للطباعة والتوزيع، ط1، 1405هـ، ص12.

[2] - يوسف غريب، تجليات الخط العربي، مجلة الفنون الكويتية، عدد أيار السنة السادسة 2006م، ص36 .

[3] - أسعد سكاف، الخط العربي وتطوّر الجمال فيه، مجلة الأبحاث التربوية، تصدر عن كلية التربية، الجامعة اللبنانية، بيروت، السنة الخامسة عشرة ، عدد 19/1994 .

النص بالإنجيليزية بترجمتي الشخصية ، ص19.

[4] - سورة العلق، الآيات:3 إلى 5

[5] - أبو حيان علي بن محمد التوحيدي، رسالة في علم الكتابة، ثلاث رسائل لأبي حيان التوحيدي، تحقيق إبراهيم الكيلاني، دمشق، المعهد الفرنسي بدمشق للدراسات العربية، 1951م، ص46.

[6] - أحمد بن علي القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، ج3 ،القاهرة ، دار الكتب الخديوية، 1332هـ -1914م، ص24

[7] - القلقشندي، صبح الأعشى،ج3 ص5.

[8] - المصدر السابق، ج3، ص6.

[9] - راجع هذه الرسالة في عبد الرحمن بن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، ج1،المقدمة ، القاهرة ، المكتبة التجارية ، ص248-249.

[10] - التوحيدي، رسالة في علم الكتابة، ص39.

[11] - محمد طاهر بن عبد القادر الكردي، تاريخ الخط العربي وآدابه، القاهرة، مكتبة الهلال، 1358هـ، 1939م، ص211-216.

[12] - التوحيدي، رسالة في علم الكتابة، ص46.
 


النجف

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية