|
|

إلقاء الشعر وتجويده
أ. عبده عبدالكريم عبدالله مقبول
ظهرت في الآونة الأخيرة تسجيلات صوتية لقصائد شعرية كثيرة ومتنوعة وبأصوات مختلفة, وتنوعت هذه بين القصائد الدينية (الزهدية) والقصائد الوطنية أو الثورية (التحريضية) فضلاً عن القصائد الشعبية (باللهجة العامية). وتفاوتت هذه الأصوات بين الإجادة أو الاقتراب منها في معظم تلك الأصوات .. غير أن البعض ممن لا يجيد استخدام الأدوات اللغوية استخداماً صحيحاً, ولا يدرك طبيعة اللغة ومبانيها بدا إلقاؤه واهياً مذبذبا خاليا من فن الإلقاء الشعري المعبر عن مضمون القصيدة وهدفها وغايتها أومناسبتها التي قيلت فيها .. حتى لكأنك ترى الصوت في جانب والمعاني والمضمون في جانب آخر .. ولعل ذلك عائد في ما يبدو إلى خلل ما عند ذلك القارئ الملقي للقصيدة . ولما كان الشعر لغة, واللغة نظام من الإشارات والرموز _ حسب (دي سوسير) _ وهي أداة للتواصل والتفاهم واكتساب المعرفة , فضلاً عن كونها منحة من الله للإنسان مازه بها عن سائر المخلوقات ليعمر الأرض ويرعى شؤونها وشئون نفسه.
إذن فحقيقة الأمر أن اللغة شيء معقد، مركب إلى أقصى حد، شأنها في ذلك شأن طيف الشمس؛ نلحظه لأول وهلة أبيضا ولكن لا ندرك حقيقته إلا إذا حللناه إلى ألوانه المكونة له.
وكذلك اللغة هي مجموعة من النظم المجردة ذات إنتاجية غزيرة تمكن المتكلم من صياغة جُمَلِهِ وعباراته صياغة صحيحة وفقا لتقاليد الكلام في البيئة المعينة فيتم الفهم والإفهام.
وفي الحقيقة نحن لا ننوي هنا الكلام عن اللغة وقوانينها وضوابطها، وإنما نستخدم مصطلح الكلام/ الإلقاء/ قراءة الشعر بمعناه العام موجهين النظر نحو الجانب التطبيقي أو الأدائي منه، فالكلام / الإلقاء، ليس مجرد شيء يمنح أو يوهب، أو مجرد ثروة أو مخزون من الألفاظ والعبارات يوزعها الفرد/ القارئ هنا وهناك كما يحلو له أو ينشر القصيدة على السامعين ويلقيها عليهم بلا ضوابط أو حدود.
ومعنى هذا أن الكلام نشاط فردي اجتماعي في صورته المنطوقة الظاهرية الخارجية أو المادية، يقول الشاعر العربي:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على القلب دليلا
والشعر لغة .. وللغة جانبان: جانب الطبع، وجانب الصنع، وبهما يتم اكتساب اللغة.
والمقصود بالطبع هنا: المقدرة اللغوية التي منحا الله عباده من بني البشر. أما جانب الصنع: فمصدرة المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان؛ والذي يشكل عملية برمجة اللغة لدى المتكلم وفق المسموع من الكلام بكل خواصه وضوابطه وقواعده.
وعلى الرغم من تلازم الجانبين الطبع والصنع ـ في الأسوياء من البشرـ فإن الصنع بالمفهوم السابق هو القوام الحقيقي لاكتساب اللغة، وهو العماد الفعلي الذي يتحقق في صورة كلام ذي أبعاد وحدود تجري على سنن المألوف.
ومن هذا التصور الخاص لعملية اكتساب اللغة ساغ لعلماء العربية أن يطلقوا عبارة :( اسمع وأسمِع). إذ يبدو الاكتساب بكل درجاته وصوره مرهون بالسماع المباشر من الناطقين للكلام المراد اكتسابه. وعلى الراغبين في اكتساب اللغة التي يريدون اكتسابها هو المداومة دون كلل أو ملل على الاستماع إلى النماذج الصحيحة التي من شأنها أن تقودهم إلى الدرب المأمول، ومتابعة ذلك بإعمال الأجهزة النطقية وتعويدها على الإتيان بالكلام نطقا على وفق ما يسمع، وبالمحاولة والتجربة الدائبة الصادقة ربما يظفرون بمرادهم.
قد يصيب المتدرب مرة ويخطئ أخرى، لا بأس، لكن عليه أن يعاود المحاولة فيصحح نفسه أو يستشير العارفين، حتى ينمو ذوقه لأدبي واللغوي ويقف في النهاية على أرضية صلبة .
ولما كان إلقاء الشعر عملية فنية تحتاج إلى مجموعة من الوظائف الصوتية واللغوية والنفسية التي قد لا يجيدها إلا القليل، حتى من الشعراء أنفسهم؛ الذين يرون أن الإلقاء الجيد هو نصف القصيدة، لذا حاولنا تتبع مجموعة من الخصائص والسمات التي ـ إذا توافرت ـ ربما تساعد من يريد قراءة الشعر وإلقائه وفق نظم وإمكانات صحيحة بحيث يتمكن من تجويده على النحو الذي يمكن أن يحدث تأثيرا في جمهور المستمعين ويطربهم، ومن ذلك:
البناء الصوتي للكلام: ويتم وفق أجهزة النطق التي تعد الأداة الأولى والأخيرة في التشكيل الصوتي للكلام. أما الأصوات فلأنها لبنات الكلام التي تشكل المادة الصوتية للكلام. ثم يأتي التلوين الصوتي لهذا الكلام، حيث يتم تشكيل الصوت لونيا عبر خصائص معينة تتمثل في:
1. النبر : وهو ملمح من الملامح الصوتية التي تكسو المنطق كله وتكسبه خواص تنبئ عن
معناه ومطابقته لبنيته ومقامه، والنبر في معناه يقصد به: نطق مقطع من الكلمة بصورة أجلى وأوضح من بقية المقاطع.
وتوزيع النبر على المقاطع يختلف من كلمة إلى أخرى, ويفيد ذلك في بيان مقصود المتكلم سواء كان تأكيدا للمعنى أو تخصيصا له أو الإتيان بالمعنى المحايد . مثال ذلك:
زيد في الدار
في الدار زيد
فعند النطق بالجملة الأولى في صيغتها الخبرية يبدو الصوت هادئا والنبرة منخفضة، ولا تلوين ولا نغمات في الكلام، غير أن الصوت في الجملة الثانية قد تبدو فيها حدة الاستفهام أو الاندهاش مع ارتفاع في نبرة الصوت.. فضلا عن تقديم الخبر على المبتدأ الذي يدل على الاهتمام أو التخصيص.
2. التنغيم: وهو موسيقى الكلام؛ أي تلوين الكلام بنغمات تتمثل في ارتفاعات وانخفاضات تكسو المنطق كله، ولهذا فالتنغيم خاصية صوتية، لكنها ذات أهمية في الإتيان بالكلام وفقا لمقتضى الحال.
فمثلا موسيقى الكلام المادح تختلف عن موسيقى الكلام القادح، ونغمات التعجب غير نغمات الرضا والارتياح، والتلوين الموسيقي عند الغضب غيره عند السرور والفرح.
ولنلاحظ قراءة البيت الآتي، وهو لجميل:
قالوا تحبها؟ قلت: بهراً عد النجوم والحصى والتراب
فالجملة: (تحبها؟) استفهامية لكنها لا تفهم إلا من خلال التنغيم الذي يبرز الدلالة.
3. الفواصل الصوتية:
والمقصود بها الوقفة، والسكتة، والاستراحة، أو تعديل النفس وتكييفه، والفواصل الصوتية بهذا المعنى عنصر من عناصر الكلام أو التلوين الصوتي. وعند الإتيان بها لا بد من مراعاة جانبين:
الأول: طبيعة المنطوق ـ جملا وعبارات ـ من حيث نظمه وتركيبه.
الثاني: من حيث المعنى الذي يحمله هذا النظم/ التركيب.
كما أن للفواصل الصوتية ضوابط وحدود لا بد من مراعاتها منها:
- الوقفة التي لا تصح إلا بتمام الكلام في معناه ومبناه، إذ لا يصح الوقف على المضاف دون ذكر المضاف إليه، أو بين النعت والمنعوت، أو البدل والمبدل منه، أو الفعل والفاعل.
- السكتة: وهي أخف من الوقفة وأدنى منها زمناً، إذ تحمل في مضمونها تغيير مسيرة النطق بتغيير نغماته، لكنها تظل في ترابط شديد إذ يبدو ما يسبق السكت أكثر ارتباطا بما يلحقه، فيظل المعنى مترابطاً.
والمعتاد أن السكتة تأتي مصحوبة بنغمة صاعدة، دليلاً على عدم تمام الكلام. وأوضح مثال لها ما يحدث بين طرفي الجملة الشرطية ـ الشرط والجواب ـ أو بعد القول وحكايته، وعلامتها الفاصلة.
- الاستراحة: وهي مجرد وسيلة صوتية لمنح الكلام خاصية الاستمرارية، أو قل: إنها فرصة لمجرد أخذ النفس.
4. الإلقاء: وهو خاتمة توصيل الرسالة نطقا جهرياً، وهو في صورته النهائية فن يعتمد على أسس معرفية ذات شأن في تحقيق هذه الفنية.
ولابد للمتحدث/الملقي في الجماهير أن يكون عارفا بلغته معرفة تعادل قدره وقدر المستمعين، من حيث ضوابطها وقواعدها. وهذا يعني تمكن المتحدث من طرائق نظم الكلام وهندسته، والقدرة على تشكيل لبنات هذا النظم والإتيان به على الوجه السليم.
قد يكون المتكلم عارفا بل متقنا لقواعد التأليف/اللغة وضوابط النطق ولكن تنقصه الكفاية في تفعيل هذه المعرفة والإفادة منها، ولهذا فإن شخصية المتكلم لابد أن تتمثل الآتي:
5. شخصية المتكلم:
وشخصية المتكلم أمام الجماهير، أن يكون مؤهلاً بحيث يلقى قبولاً وترحيباً من الحاضرين ولا يكون ذلك إلا إذا كانت لديه مجموعة من الإمكانات التي تعينه على النجاح في أداء رسالته.
ومن هذه الإمكانات:
- الإمكانات المعرفية: وتتحقق من إجادته للغته ومعرفته بموضوع الحديث وإدراكه لأبعاده ونقاطه.
الإمكانات النفسية: وتتمثل في رباطة الجأش والثقة بالنفس وإزاحة الشعور بالخوف والخجل،
والثقة هنا لا تعني الغرور والتعالي، وإنما محاولة الاندماج مع الجماهير.
- الإمكانات الفسيولوجية: وتعني تمتع المتحدث بجهاز نطق سليم بحيث يستطيع تأدية الوظائف
الصوتية وفقاً للضوابط المرسومة لأصوات اللغة المعينة.
وفنية الإلقاء أو جودته ليست بالأمر الهين، إذ إن للإلقاء صوراً وأنماطاً متعددة بحسب الحال والمقام، وكلها في حاجة إلى دربة ومران.فإلقاء القصيدة في مناسبة زفاف غير إلقائها في مناسبة حزن(مرثية)، أو مناسبة وطنية تحتاج إلى حماس، شعر الزبيري كنموذج، فضلاً عن أن الإلقاء في الشعر الحر يختلف عن الإلقاء في الشعر التقليدي(العمودي).
وفي كل الحالات ينبغي أن ندرك أن الإلقاء لا يعني رفع الصوت أو الزعيق أو الصراخ أو التشنج أو الانفعال؛ إنه توصيل الرسالة في صورة متزنة.
وصور الإلقاء تتمثل في:
- الإلقاء من المكتوب، وهو أسهل الصور وأيسرها.
- الارتجال وهو أصعب صور الإلقاء وأرقاها؛ لأنه فن لا يستطيعه إلا القليل.
ومن هنا نادى المنادون راجين من المسئولين في دور التعليم على اختلاف مراحلها أن يعودوا إلى الاهتمام بالقراءة الجهرية للنصوص في فصول الدراسة، ذلك أن القراءة أمام المدرس هي الورشة الحقيقية التي تجعل الدارسين ذوي كفاية وخبرة ودربة، وهي المنطلق العملي الواقعي ـ المنضبط ـ للسير الصحيح في طريق اكتساب هذه المهارة، وفي تثبيت قواعدها في الذهن واستقرارها.
وخلاصة هذا كله أن اكتساب قراءة الشعر وإلقائه تتمان في الأساس بالتجربة ومحاولة الأداء الفعلي للكلام نطقاً وقراءة، مع مداومة الاستماع إلى النماذج الراقية التي ترشد وتساعد في تجويد هذه المحاولة.
|
|
|
|
|