للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

مفردات الحديث اليومي في الشعر المعاصر في اليمن

أ. عبده عبدالكريم عبدالله مقبول

     ارتبطت عاطفة الشرفي ووجدانه بقضايا شعبه وأمته واتسمت تجربته بالحزن النابع من هموم ومشاكل الفرد والمجتمع والأمة، سواءً أكانت تلك المشاكل التي عانى منها المجتمع على وجه الخصوص في الماضي كالظلم والتخلف والجهل والفقر والفساد الاجتماعي والتمييز الطائفي والعنصري القَبَلي، أو قضايا الحاضر بما فيه من تناحر وتشتت، وما أصاب الأمة العربية من تخاذل وتمزق وانهزام وسلب للحقوق والحريات
ومن ثم فقد ارتبطت مفردات هذا الحقل بتلك الأبعاد، فجاءت كاشفة عن عمق هذا الواقع الذي يدور على ألسنة الناس وأصبح حديث الشارع في كل مكان، معبرة في الوقت نفسه عن معاناة الفرد والجماعة، فالشاعر ابن بيئته، ينقل ويصور هذه البيئة بحسب رؤيته وثقافته.
ومن رؤية الشاعر وثقافته تأتي تلك اللغة الشعرية إما رامزة أو موحية أو مباشرة، فاللغة ((أرهف الأدوات الرامزة طموحاً إلى إدراك الواقع والتعبير عن حقائقه))(1) ولغة الشرفي في معظم قصائده تقترب كثيراً من لغة الحياة العامة، وأحاديث الناس في اجتماعاتهم ومجالسهم، وهذا ما سوف تجلوه لنا دراسة ومفردات هذا الحقل من خلال سياقاتها في النصوص/النماذج والوقوف عليها والتمعن في تراكيبها، غير أن مجموع هذه الألفاظ وما تُمثّله من نسبة في إنتاج الشاعر هو المعيار النقدي.
إذ تكشف القراءة الفاحصة أن مفردات هذا الحقل بلغ ترددها حوالي (1073) مرة تقريباً، أي ما نسبته (11.2%) من جملة أكثر الحقول الدلالية شيوعاً في موضوع الدراسة.
وقد تجلت أبرز مفردات هذا الحقل، التي تكررت كثيراً(1)على النحو الآتي:
(القبيلة-القبائل-شيوخ-قبيلي-الزراعة-المناجل-العمال-النظام-الشعب-الدستور-القصر-المجمهر-الإمامي-الطرق-الشوارع-الحارة-الباص-السوق-الطراز-المزاد-البضاعة-الفواتير-البائع-الشاوي-الغلاء-المشقة-البنوك-الرصيد-القات-المقوات-الإشاعة-الأخبار-الإذاعة-الحروب-الإرهاب-الاجتياح-الجياع-الشهداء-الضحايا-الجماجم-الدان-البالات-الزامل-الزلط-الأفندي-العنجهيات-الموضة-العربجي-خربشة-دبكة-معجنة-الكلبشة-الفنقلة-المرجلة...إلخ)
وهذه الألفاظ رغم دورانها في فضاء حقل (مفردات الحديث اليومي) إلا أنها تتميز بخاصية التنوع، فمنها ما جاء في مستوى اللغة اليومية المتداولة، ومنها ما جاء وصفاً لمشاهد مألوفة يراها الشاعر والمتلقي في حياتهما اليومية، ومنها ما جاء في مستوى اللغة العامية الفصيحة الأصل، أو العامية البحتة.
ففي قصيدة ((لبيك لبنان))(2)يقول:
من منبت الأرز لا من منبت القات
        آتي لأنشد للماضي وللآتي

من منبت (العنب الروضي) يشعله
        هذا المساء نجوماً في مجراتي

من منبت الأرز في (صيدون)يذكرني
        نبع المسرات فيه والمساءات

أيام كانت قلاع الكبرياء به
        فوق الكواكب بل فوق السماوات

من قبل عشرين مرت دون أسئلة
        جربت نخوة أحيائي وأمواتي

ما للشجون الدوامي في معادلتي
        تغتالني بين إنجيلي وتوراتي

ظل اجتياح دمي يغلي بأوردتي
        عساي أنسج بالقرآن راياتي

لكن صهيون أدرى يومذاك بما
        تعنيه في وطني كل الرسالات

وكان شارون أذكى يوم جيّرها
        فكان (عرَّاب) جيراني وجاراتي

ماذا أريد؟ أرى جرحي يقولني
        ما لم يقله سوى طفل الحضارات

جيل الحجارة من أعني وفيه كما
        رأيت أقباس مصباحي ومشكاتي

ماذا أقول أنا في نصف زاوية
        مني أفتش في القاموس عن ذاتي

   والقصيدة طويلة وكلها على هذا المنوال، وهي رغم ما تمثله من تصوير يتراوح بين البساطة والغموض الذي يكتنف بعض شفراتها، فإنها تظل في أفق انتظار المتلقي الذي تعود على هذا النغم من البوح الرومانسي من الشاعر، وإن اتسمت بشيء من الجِدَّة في رؤية الزمان والمكان سعياً إلى الترميز الذي استعان بالمفارقات السطحية، وما يعنينا هنا هو معجم القصيدة ومدى تلاؤم دواله ومدلولاته في إطار حقل الحديث اليومي، حيث يبدو انتشار دوال هذا الحقل في القصيدة من لدن الشاعر بشكل عفوي وتلقائي، فتبرز ألفاظ من مثل: (منبت الأرز، منبت القات، العنب الروضي، الشجون الدوامي، في معادلتي، تغتالني، اجتياح دمي، يغلي بأوردتي، صهيون، شارون، جيراني، جاراتي، جرحي يقولني، جيل الحجارة، نصف زاوية، أفتش.. عن ذاتي...إلخ)، وكلها ألفاظ مما تجري به ألسنة الناس وتتداوله وسائل الإعلام من صحافة وإذاعة، وقد حاول الشاعر أن يسبغ عليها عاطفته وشعوره ويمنحها صياغة جديدة بحيث تضع كل ما احتوته من تناقض ومرارة في بؤرة الاهتمام والشعور، بحيث تفارق هذه الدوال مجالاتها إلى مجالات دلالية أوسع، فالشاعر حين يعدد مظاهر الظلم والقهر بلغة سهلة بسيطة تحمل في طياتها مرارةً ووعياً وتحريضاً، ويبدو فيها انفعاله بما يراه ويسمعه في واقعه ومجتمعه، فهو إنما يريد أن يكشف هذه التناقضات ويعريها، وفي الوقت نفسه يدفع بالمتلقي إلى الوقوف أمام هذه المظاهر لتأكيد البعد النفسي للصورة الشعرية.
فالحقل الدلالي يبدو تجسيداً حياً لرؤى الشاعر الشعرية وقضاياه الفكرية، إذ تبدو تلك المفردات المؤطرة ضمن هذا الحقل الدلالي (الحديث اليومي) مفصحةً عن الصراع النفسي وتطلعات الأنا الشاعرة في مواجهة الواقع المحيــط، وكذا تفسيـرها له وفـق رؤيةٍ شعريـةٍ
 أو تصورٍ شعري، وبالعودة إلى النص السابق، نجد أن تلك الألفاظ فيه تتحرك في فضاء اللغة الشعرية ضمن علاقات الترادف والتضاد، أو الإيحاء، فالتضاد له دلالة إيحائية يهدف من ورائها إلى إظهار الواقع وكشف حقيقته:
 من منبت الأرز لا من منبت القات
        آتي لأنشد للماضي وللآتي

...............................        ...........................
من قبل عشرين مرت دون أسئلة
        جربت نخوة أحيائي وأمواتي

............................        .................................
ماذا أريد؟ أرى جرحي يقولني
        ما لم يقله سوى طفل الحضارات

...............................        ................................
حاولت تخصيب (جيناتي) وحين بدا
        أني هجين الخصى صارت (جنيهاتي)

بيروت حورية الفينيق مثخنةً
        بالنار في زمن القومية الشاتي

والكل من مشرق الماء الخبيث إلى
        أقصى مغارب حيتاني وحيّاتي

................................        ..............................
أما الترادف فيهدف من دلالته إلى تصعيد حجم المأساة، والإحساس بحجمها:
من منبت الأرز في (صيدون)يذكرني
        نبع المسرات فيه والمساءات

أيام كانت قلاع الكبرياء به
        فوق الكواكب بل فوق السماوات

......................................        ..................................
جيل الحجارة من أعني وفيه كما
        رأيت أقباس مصباحي ومشكاتي

....................................        ..................................
يا خنجر الحزن في لبنان خاصرتي
        بالله خذ كل أيامي وساعاتي

لبنان لبنان حيا الله خندقه
        ذاك الذي صان لي بقيا كراماتي

تلك الحرائق كانت فوق طاقته
        لكنه هو إعصار الدم العاتي

هنا جنوب(الحسين السبط) وارتعدت        فرائص الغزو مراتٍ ومرات

.....................................        ..................................
ويبدو أن معظم مفردات النص ذات دلالات شعرية اكتسبتها إما من خلال تلك العلاقات المتخالفة والمتضادة أو المترادفة والمتجانسة، وإما من خلال تلك التراكيب الموحية والتي تحمل قوة انفعالية وشعورية خاصة يتجسد فيها المعنوي كـ(قلاع الكبرياء..)، و(الشجون الدوامي..)، و(زمن القومية الشاتي..)، و(خنجر الحزن..)، والأشياء الجامدة تتحرك:(دمي يغلي بأوردتي..)، (جرحي يقولني..)، و(إعصار الدم العاتي..)، (ارتعدت فرائص الغزو..) ..إلخ.
وينكسر جمود اللغة الرتيب، وتنطلق محطمة الحواجز والجدران التقليدية التي تعيقها عن الاتساع والانفتاح، فتصبح ذات قدرات خاصة على الإيحاء والتأثير.(1)
والشرفي يبدو من خلال استخدامه لهذه المفردات –في معظم الأحيان- ساخراً أكثر منه هاجياً، إذ هو لا يهجو بل يصور ويدخل في الصورة ما يوحي بهذه السخرية، وهي سمة فنيـة و خصيصة أسلوبية يمتاز بها، وهذا ما يجلوه البحث في كثير من قصائده، منها على سبيل المثال، قصيدة ((بين اللوحة والستار))(2):
وطن الحلم كان للحلم فيه
        ألف بشرى وألف وعد هتوف

فجعتني فيك المعاول هدماً
        بانفصام العرى ونقض الصفوف

كنت أضواء العرس زيتاً وناراً
        كنت لون الحنَّا ولحن الدفوف

فلماذا أوحلت رأساً وغاصت
        في السراديب شامخات الأنوف

............................        ..................................
أنت عشقي إذا تعشق غيري
        تاج كسرى أو إن تعشق (فيفي)

فالبيت الأخير –من المقطع السابق-هو ما يكسر التوقع عند القارئ ويفجر المفارقة الساخرة، فوجود مقارنة بين عِشْق (تاج كسرى) في إشارة موحية إلى السلطة والحكم، وبين عشق (فيفي عبده) الممثلة والراقصة، هو ما ينتج مفارقة أليمة توحي بالسخرية، إذ أن الشاعر حين يعمد إلى توظيف السخرية  للتعبير عن تذمره فهو يقصد من وراء ذلك تفجير ما يحفل به الواقع من تناقضات، ومن ثمَّ يستخدم لغة قريبة وسهلة يلتقطها المتلقي بسرعة ويتفاعل معها.
وبذلك يكون الشاعر قد رسخ معنى المفارقات في وجدان المتلقي وزاد المعنى عمقاً ووضوحاً.
وفي قصيدة ((من داخل النص))(1)يصور الشرفي مشاهد من الحياة اليومية بتلك النبرات الساخرة، مستخدماً البساطة في الألفاظ والصور القريبة، والمفارقة الجزئية البسيطة، فيقول:
انظري كم تاجر ذي سطوة
        خلَّف البائع والشاري وراءه

قال للأمواج كم صبحٍ زوى
        وجهه عنك ليستعدي مساءه

فأتى من ذائع الصيت ومن
        أبهات الصوت رسميّ البراءة

يا ابنة البلوى ويا أم الأسى
        أنا ما فكرت يوماً في الإساءة
ج
إنني أستغفر الله الذي
        ألبس الثعبان والذئب رداءه

قلت لي إنك في خير ومن
        يفتري لابد أن يلقى جزاءه

وأنا أشهد أن المبتغى
        جاء بالضبط كما أيلول شاءه

عمت النعمة حتى شملت
        (راقد المسجد) فاستحلى دعاءه
ج
كان في السوق فشقوا جيبه
        لاذ بالله فبزوه حذاءه
ج
قلت لي إنك في خيرٍ ومَنْ
ج        يفتري عريت للناس افتراءه

وأنا أشهد أن الكل في
        رغد الأمن إلى حد البذاءة

موكب السلطان لما لم يجد
ج        فسحةً أثبت بالقتل الكفاءة

فمضى يقتنص الأرواح في
        ثقة بالعدل تذكي كبرياءه

لن يضيق الشارع الكلب به
        وهو من لا تجهل الدنيا إباءه

وهو في عاصمة الشعب التي
        ركزت في قلبه الدامي لواءه

من هنا يزحمه؟ أو من هنا
        أحد يجرؤ أن ينسى حياءه

وعلى الرغم من أن القصيدة لا تبتعد عن وصف مشاهد مألوفة يراها المتلقي في حياته اليومية ، إلا أن الشاعر استطاع أن يعطيها صياغة جديدة تضع كل ما احتوته من تناقض ومرارة في بؤرة الاهتمام والشعور مما يدفع المتلقي إلى الوقوف مندهشاً أمام هذه الحقائق التي تشحن الوعي والغضب في قلبه وذهنه، فالتاجر محتكر لا يبالي بالبائع ولا بالمشتري، في ما يحاول أن يظهر أمام الناس بإذاعة أصوات مغايرة لما يفعله، ليوحي ببراءته.
وفي الموقف الثاني، ينفعل الشاعر بما يراه من مظاهر التناقض وقلب المفاهيم في هذا الواقع، فهو ما إن يقول: (عمّت النعمة..) إلا ويستدعي ما يخالفها ويضادها في سياقٍ ساخرٍ ونبرةٍ تهكميةٍ موحيةٍ:(كان في السوق فشقوا جيبه..) كنايةً عن السرقة وعدم الأمن، وجاء المسجد لائذاً بالله فسُرِق حذاؤه، ومع ذلك (فالكل في رغد الأمن..)، أما (موكب السلطان..) لما لم يجد فسحة .. وهو كناية عن عظم موكبه، من جند ورفاق، أخذ يزيح الناس بإبادتهم حتى لا يكونوا سبباً في زحمة الشارع فـ(مضى يقتنص الأرواح) وهو واثق بأنَّ ذلك عدلٌ .. إنها لقطاتٌ ساخرةٌ تعبر عن واقعٍ مضحكٍ مبكٍ، يرسم فيها الشاعر صورة الواقع المعيش بلغة سهلة معبرة؛ بكل ما فيه من مفارقة وتناقض ليغرس الوعي لدى المتلقي ومن ثم يتفاعل معها.
    وفضلاً عن ذلك هناك خصيصة أخرى تقوم عليها الصورة الكلية –في النص السابق- وهي البناء الدرامي الذي يعتمد على تقنيـات الفـن السـردي، من مـكان وزمـان، وشخصيـات
 وحوار:
يا ابنة البلوى ويا أم الأسى
        أنا ما فكرت يوماً في الإساءة

إنني أستغفر الله الذي
        ألبس الثعبان والذئب رداءه

قلت لي إنك في خير ومن
        يفتري لابد أن يلقى جزاءه

وأنا أشهد أن المبتغي
        جاء بالضبط كما أيلول شاءه


     وقد كُرِّسَ هذا الأسلوب لكشف سريرة الواقع بما يعتمل فيه من تناقض وتداخل معتمداً التصوير والاستبطان لاستنطاق الذات من داخلها بحيث يتعالى الصوت ويتنامى الحـوار بيـن
الطرفين و يبدو المشهد حواراً خارجياً (ديالوجاً) بين كائنين:
يا ابن هذا وابن هذا واحسبي
        كم من الأبناء باسم الله جاءه

أنا والبحر حكايات أتت
         من بعيد خيب القات رجاءه

.........................        ...............................
اسأليني عنك في هذه القراءة
        تكشفي عن وجهك الثاني غطاءه(1)

    وفضلاً عن سهولة اللغة فثمة اعتماد– كما يبدو-على الكثير من الألفاظ العامية، غير الألفاظ الطافية والمتداولـة، وهذا راجعٌ-في ما يبدو- إلى أن الشاعر يكتـب الشعر العامي (الحميني) والغنائي(2)ولهذا تأثيرٌ كبيرٌ في شعره الفصيح بأن جعله أقرب إلى البساطة والوضوح غالباً.
فقد ترددت في شعره كثيرٌ من الألفاظ العامية، والتي تبدو قليلة بالقياس إلى مجموع مفرداته، لكنها تعد ظاهرة تبعث على الاهتمام. وقد عمد البحث إلى حصر ألفاظها، فبلغت حوالي (398) كلمة؛ أي ما يمثل (4.1%) من نسبة مجموع ألفاظ الحقول جميعاً، وبنسبة (37.9%) من نسبة ألفاظ (حقل الحديث اليومي).
وقد وُظِّفَتْ في كثير من القصائد في سياقاتٍ لا تخلو من الصور الموحية خاصة في مواطن الإقذاع التي إن لم يدرك المتلقي معانيها مباشرة دله السياق وطبيعة أصوات الكلمة على معناها، ومن ذلك قوله في قصيدة بعنوان ((ثوابت))(3):
لابد يدرك ما يخيب ظنَّه
        في (قُبْع) شوعي أو(شميز) عصام

في أي وضعٍ أو بأي نظام
        سيظل محترف الحرام حرامي

مع أي دستور وأية شرعة
        يبقى (المجمهر) بالمزاد إمامي

من قال إن مُلمَّع (الهندام) في
        مكنونه ما راق في (الهندام)

   وإذا كان التعبير عن الواقع بكل ما يحمل من مرارة وألم –كما رأينا- يمثل هاجساً ملازماً للشرفي، فإنه في هذا المقطع الاستهلالي يستخدم مفردات دارجة من مثل:( المجمهر -ملمّع الهندام-قُبْع-شميز)، ولهذه المفردات إيحاؤها وإيقاعها اللذان لا يغيِّران مما ألفته الذائقة الشعرية عبر القرون فحسب، بل يعطيان القصيدة حيوية وحرية وانطلاقة تجعلها تتميز بعفوية اللغة وخلوها من التكلف وتتبعها الموجود اليومي في تفصيل دقيق، وتشكل علامة بارزة على العلاقة الوثيقة بالحياة والالتصاق الدائم بالواقع الجماهيري،
      فـ(المجمهر) كلمة يستخدمها العامة للدلالة على من انتمى إلى الجمهورية –وقد شاع هذا اللفظ إبان قيام ثورة سبتمبر سنة 1962م- و(الإمامي) نسبة إلى فترة حكم الإمامة في اليمن، ويتولد التناقض من خلال وصف هذا (المجمهر) بـ(الإمامي)، فالكلمتان متضادتان في لغة العامة، أما قوله :(ملمّع الهندام) فـ(الهندام) من الألفاظ الدخيلة المعربة وأصلها تركي(1)، وهي من الألفاظ التي تلوكها ألسنة العامة في حياتهم اليومية، وكذلك كلمة (شميز)، أما كلمة (قُبْع) فهي من العامية اليمنية وتستخدم في تهامة بمعنى الغطاء الذي يوضع فوق الرأس ويصنع-عادة- من سعف النخيل، وتعمل رغبة الشاعر الكامنة في إطاره الشعري  على اختيار مثل هذه الألفاظ لتعطي دلالات رمزية وإيحائية تفهم في السياق، فالشاعر حين يلتقط الواقع فهو يلتقطه بتلك المرارة التي تضيع منا حين يكون تعبيرنا خالياً من النَّفَس الشعري المتسم بالإيحائية واتساع الدلالة، وعندما يختار الأوصاف العينية لا المجردة فهو يختار ما يصل القارئ بالنص.
فكلمات مثل:(الهندام – المجمهر –الإمامي-ملمّع-قبع.......) جاءت في سياقاتها واضحة مؤدية للمعنى من خلال أصوات حروفها وتناسقها وانسجامها مع السياق العام الذي جاءت فيه، وهي دالة في الوقت نفسه على المراد للصورة التي لا تؤديها فيها لفظة أخرى في دقة دلالتها وترمز لبعد لا شعوريٍّ، وهي ليست صوراً يقصد من ورائها المعنى المباشر، ولكنها بعد أن امتزجت بإحساس الشاعر وتفاعلت مع أفكاره غدت صوراً ساخرة تصور المأساة التي يعيشها الشعب تحت هذه الظروف القاهرة.
ويستمر الشاعر في استخدام عاميته سواء أكانت الكلمة المستخدمـة من اختراع العامة أم كانت مأخوذة من الفصحى ومستخدمة استخداماً عامياً، أو من تلك اللغة القريبة من ذاكرة الشعب مستدعياً ما يوازيها في الذاكرة:
عندما يلعب بالنار الكبار
        من عسى يكوى بها إلا الصغار

سنة الغاب التي ما فتئت
        سنة الناس وما فيها فرار

فاسخري يا أرض منا وبنا
ج        إنما نحن ولاءٌ مستعار

سادة كنا ولكن قبل أن
        يستبيح القيم المثلى شعار

آدميون ولكن قبل أن
        يتبارى بقضايانا القمار

فاستريحي يا توابيت الأسى
        ولتنم فوق المرايا يا غبار

قد ألفناك انتصاراً باهتاً
        وجواراً يتحاشاه الجوار

وقبلناك على طول المدى
        (بغل) (ميكادو) أبوه شهريار

كان بالأمس (بعيراً أجرباً)
        تتحاماه الفيافي والقفار

بعد حين صار بيتاً أبيضاً
        (كلبه) في كل قصر مستشار(1)

فالأبيات تميل إلى الصيغ أو الجمل التي تؤسس العبارة على مجموعة من الألفاظ أو الصور المترافقة أو التي تختزنها الذاكرة العامة وتتداولها في سبكها على هذا النحو المتداول، بحيث تأتي العبارة في صيغة التعبير المألوف، أو ما يقارب شكل المثل عند العامة، وفي مثل هذا يكاد المتلقي يردد القول مع الشاعر ويكمل له العبارة.
وهذا -في ما يبدو- يظهر طابع الجِدَّة في اتساع الطبيعة الاستبدالية للغة، وفي العلاقات السياقية التي تربط بين مفرداتها(2)، فهو عندما أراد أن يعبر عن استباحة الدول العظمى لحقوق الأمة وقِيَمَها، استخدم لفظة (القمار) وعندما أراد أن يعبر عن الروح الانهزامية في الأمة العربية وحكامها استخدم صوراً إيحائية كـ(توابيت الأسى) و(لتنم فوق المرايا يا غبار) و(ألفناك انتصاراً باهتاً..)، وهي دوال يشف عن معانيها سياق القصيدة، وترسخ مفهوماً عميقاً لدى المتلقي يشعر معه بعمق مأساة الغفلة العربية التي لا ترى في كل ما يقابلها من أحداث ووخزات بالسيوف والقنابل إلا داعياً للنوم والتغاضي عن القضايا المصيرية.
وقد استخدم الشرفي الكلمات العامية في مواضع أخرى كثيرة، وهذا مما لا يضير شعره، لأن الكلمات لم تعد مقسمة على كلمات شعرية وأخرى لا يمكن استخدامها في الشعر، بل شعرية الكلمة وجمالها يستمدان من مناسبتهما للسياق الذي يأتيان فيه، فـ((الكلمة لم تعد في حدود دلالتها القاموسية المعروفة وإنما هي تتجاوز ذلك إلى آفاق دلالية أخرى من التراحب والامتداد، وذلك من خلال نزعها من سياقاتها المنطقية ووضعها في سياقات وعلاقات مغايرة تمليها طبيعة رؤية الشاعر الذاتية وموقفه الانفعالي))(1).
والشرفي– كما يلاحظ في النماذج السابقة- يهتم بالتصوير الحي والعميق بما ينسجم مع تجربته التي تضع في الحسبان تصوير حال الأمة ومعاناتها، لذلك لم يحاول التعالي على لغة الجماهير، وكره الوقوع في دائرة الغموض، وتعامل مع الكثير من الألفاظ الفصيحة الشائعة في العامية، والألفاظ الطافية على سطح الحياة، لكنه تجاوز هذه البساطة والسهولة في استخدام اللغة إلى حد استخدام الألفاظ البذيئة والنابية، وخاصةً في مواطن الإقذاع والسخرية من بعض المواقف، وهي ظاهرة وسمة يتسم بها شعره، ومن ذلك – مثلاً- قوله:
1-ينوي الصعود فلا يطيق صعودا
        ويرى الطريق أمامه مسدودا

....................................        ................................
اللذة الحسناء تسرق وجهه
        منه لتحتضن الوجوه السودا

كم من أخي قمر يقامر باسمه
        ويحالف التوراة والتلمودا

(قاضيه رجسٌ) لو تهبُّ رياحه
        كانت جراداً جائعاً أو دودا

وحياته عفنٌ (كمبسم مومسٍ)
        تمتص قيحاً ناغلاً وصديدا(1)

        
2- يا أخاً لم تلده أمي ..بأمي
        وأبي أفتديك لا بالمال

أنا أشكو إليك ظلم زمانٍ
        كافر ما وجدت فيه مجالي

زمنٌ للضياع أبخس من عِرض
        (بغيٍّ) في مخدع الابتذال

        
3- يا عيون الجرذان زيدي اتساعاً
        وارقبينا حريصة وار صدينا

يا مراحيض العار إن هوانا
        لم يعد خائفاً ولا مستكينا(2)

ففي مثل هذه النماذج نلاحظ الشرفي يستخدم الألفاظ (الوجوه السود، قاضيه رجس، جراداً جائعاً، أو دوداً، حياته عفن، كمبسم مومسٍ، تمتص قيحاً ناغلاً وصديدا، عِرضِ بغيٍّ، مخدع الابتذال، يا عيون الجرذان، يا مراحيض العار،.. إلخ)، وهي وإن كانت ألفاظاً وعبارات فيها نوع من الإيحاء (التهكم والسخرية) إلا إنها تظل ألفاظاً دونية يتداولها السوقة والفئات المبتذلة من الناس في نطاق ضيق، لكن الأمر الذي لا شك فيه هو أن مثل هذه الألفاظ ارتبطت  بذكر أحوال الواقع العربي القائم على القمع الداخلي والانكسار الخارجي، حيث تراه يصور حال الأمة ساخراً، فيقول:
هذا زمان العيب فيـ
        ـه لن نجادل أو نماري

الحاكمون مع الهنا
        والشعب في (جحر الحمار)

عارٌ على كل الجبا
        ه العاليات وأي عار(3)

أو كقوله:
أما هنا أحد؟ قال الجواب هنا
        ما شئت من دول (خنثى) ومن نظم

ومن شعوب على المأساة صابرةٍ
        صبر العظام على مستفحل الورم

لا في النفير ولا في العير همتها
        لأنها ما أحست بعد بالألم(1)

        وتختلف درجة البذاءة وحدتها من نص لآخر، بحسب الظروف والمواقف كما في قصيدة (عظيم الرافدين)(2)، وقصيدة (مؤتمر النجمة)(3)، وغيرهما، أو قد يعمد – في بعض الأحيان- إلى استعمال أسلوب الحذف، كقوله في قصيدة (وصية شهيد ينتظر)(4):
من يحاول تنكيسه كان أغبى
ج        من كسيح يروم غزو الفضاء

من يحاول تحريفه صفعته
        وحدة الصف عنوة بـ.....

فالمحذوف (المقدر) وحسب ما تقتضيه القافية الموحدة كلمة:(الحذاء) إذ بها يتم سياق المعنى ويستقيم الإيقاع وتتوحد القافية، والشاعر بتر العبارة وحذف منها هذه الكلمة لحقارتها، إذ الصفع بالحذاء يعد أشنع عقاب يحمل معنى الإذلال والمهانة.. وهو ما أراد أن يوحي به الشاعر لمن يحاول تنكيس علم الوطن أو العودة به إلى الوراء.
فطبيعة التجربة المرة التي يواجهها الشاعر أخرجته عن حدود الالتزام بالرفق والرقة والتهذيب، وجعلته يسخر من هذه المواقف، وهذا ما يفسر وجود مثل هذه الألفاظ في كثير من قصائده، فقد تكررت مثل هذه الألفاظ في سياقات مشابهة في مواضع مختلفة من نصوصه نحو قوله (في مربط الجدب العقيم حمار)(5) و(في شعوب ناسها بقر)(6)و(جباهه بالنعال الزرق تعتمر..)(1)و(من طراز بلطجيٍ)(2)و(يا زمان المراهقات العرايا..)(3) و(كـل فرسانـها حريـم تنابل)(4).
والذي يبدو أن مثل هذه النماذج تتميز بعفوية اللغة وخلوها من التكلف  وصورتها المباشرة، وتتبعها الوجود اليومي في تفصيل دقيق، غير أنها وإن كانت كذلك فهي مزوَّدة– في كثير من الأحيان ببصيرة نقدية يبثها الشاعر على هيئة إشارات بين سطوره، وهي في كل الأحوال تكشف عن طريق خاصة وأسلوب خاص بالشاعر في التخاطب بينه وبين قارئه، وكأنه يتوجه بخطابه إلى شخص يعرفه فلذلك لا يبالي كيف جاءت المفردة.
ولذا نجد هذا الحقل قد شكل حضوراً قوياً في لغة الشاعر وتجربته، وزادت نسبة مفرداته على ثلث شعره، حيث كانت ذات الشاعر في معظم تجلياتها في النص الشعري تعبر عن هموم مكانية واقعية مهما كانت درجة البعد الشخصي أو الهم الذاتي الذي يحركها.
- وهنا يمكن القول: أن مفردات الحديث اليومي عند الشرفي جاءت متصلة  بواقع الشاعر ومجتمعه الذي يعيش فيه بهمومه وآلامه وتطلعاته، فجاءت الدوال كاشفة عن عمق هذا الواقع الذي تجري أحداثه وتدور على ألسنة الناس، ومن ثم استخدام لغة سهلة وقريبة من المتلقي وإدراكه، وان كانت – في بعض الأحيان- تنحو منحى الابتذال والغموض، لكنها لا تخلو من عاطفة أو انفعال أو تهكم أو سخرية.


التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية