|
|
|
|

ازدواجيّة العاميّة والفصيحة
أ.د. صلاح جرّار
اللغة وسيلة من وسائل كثيرة أخرى لتمييز العربي من غير العربي، فإذا سمعت أحداً يتحدّث باللغة الفرنسية مثلاً فإن أوّل ما يخطر ببالك أنّه فرنسيّ، وإذا سمعت أحداً يتحدّث الألمانية فأوّل ما يخطر ببالك أنّه ألماني؛ ولكنّ العرب إذا سمعوا أحداً يتحدّث باللغة الفصيحة فأوّل ما يخطر ببالهم أنّه أجنبيّ، وذلك لأنّ اللغة العربيّة الفصيحة لم تعد على لسان العامّة إلا في النادر. حدّثني أحد الأساتذة الأتراك الذين يعرفون العربيّة جيّداً قال إنّه تعلّم اللغة العربية الفصيحة في أحد المعاهد في تركيّا، وأنّه عندما زار إحدى الدول العربيّة، كان الناس يضحكون منه كلّما تحدّث معهم بالعربيّة الفصيحة ويستهجنون ذلك منه ويستغربون من طريقة حديثه، حتّى تبيّن له بعد ذلك أنّ الفصحى لا سُوقَ لها بين الناس، وأنّ السائد هو اللهجات العاميّة الدارجة التي تختلف من قطر عربيّ إلى آخر ومن مدينة إلى مدينة بل من قرية إلى قرية.
وفي المقابل حدّثني أحد الطلبة الذين تعلّموا العاميّة المصرّية في أحد معاهد اللغة قائلاً إنّ محاولة الحديث بالعربيّة الفصيحة تجعله يشعر أنّه يترجم من العاميّة إلى الفصيحة، وأنّ الفرق بين هاتين اللهجتين شاسع، ومن يتقنهما كأنّما يتقن لغتين اثنتين.
وحدّثتني أستاذة من كوريا متخصّصة في اللغة العربيّة وآدابها أنّ أبرز مشاكل تعليم العربيّة في بلدهم أنّ الأستاذ العراقي يدرّسهم ويتحدث معهم باللهجة العراقية وأن الأستاذ المصري يدرسهم ويتحدث معهم باللهجة المصرية، فيضيع الطلبة بين اللهجتين.
إنّ أحد أهمّ عوائق انتشار العربيّة – حديثاً- خارج حدود الأقاليم الجغرافية العربيّة، هو ازدواجيّة العاميّة والفصيحة واتّساع الهوّة بينهما يوماً بعد يوم، وأنّ الأجنبيّ الذي يتعلّم العربيّة الفصحى يجد صعوبة بالغة في ممارستها من خلال التعامل اليومي مع الناس العاديّين، وأنّه يجد نفسه مضطراً لتعلّم قواعد العاميّة كي يستطيع التفاهم مع الناس، وإن كانت الفصحى تساعده على قراءة الكتب والاستماع لنشرات الأخبار وفهم المخاطبات الرسميّة وإعدادها.
إنّ هذا التشتّت بين العاميّة والفصحى وبين اللهجات المختلفة في الأقطار العربيّة، يربك دارس العربيّة من غير العرب، ويؤدي إلى تراجع الإقبال على تعلّم هذه اللغة، ويعكس حالة التشتت في الواقع العربي، وفي الفكر العربي، لأنّ اللغة هي ميزان الفكر.
وللخروج من هذه الحالة لا بدّ من العمل على زيادة احترام الفصيحة لدى سائر قطاعات المتحدثين بالعربيّة، ومحاولة تقريبها من أفهام الناس العاديين واهتماماتهم، والاستمرار في تحصين القطاعات التي تتعامل بالفصيحة ضدّ اختراقات العاميّة، والعمل على زيادة هذه القطاعات، ولا يكون ذلك إلاّ بنشر الثقافة والعمل على مشاركة أبناء المجتمع كافّة بالأنشطة الثقافية منتجين ومشاركين ومتلقّين، فالثقافة ترفع من السويّة اللغوية للمنشغلين بها.
الرأي
|
|
|
|
|
|