|
|
|
|

مصانع اللغة
أ. إبراهيم جابر إبراهيم
كما لو أنه توقف أمام قافلةٍ لعربٍ قديمين، مُحمَّلةٍ بالذهب، يتوقف القارئ أحياناً عند بعض المنقول القديم، ليصدمه غنى المعنى وجزالته، فضلاً عن جمال المبنى اللغوي، حيث اشتملت اللغة العربية دائماً على جماليات وثراء نادرين، وطواعية ساحرة.
لكن اللغة، مثل أي كائنٍ حيّْ، تموت وتحيا، وتتناسل عبر أجيال منها. وتتخلَّصُ دائماً من الفائض الذي يثقل تنقَّلها الرشيق بين العصور.
واللافت أحياناً، هو ركاكة بعض المنقول بما لا يتناسب وأصالة اللغة وعراقتها، والذي هو أقرب لـ "اللغو" منه
لـ "اللغة"، حيث يبدو ضعيفاً ولا يقوى على حمل معناه. وهذا يعني أن اللغة؛ بما هي خزّان الثقافة والقول والتعبير، الخزّان العظيم والهائل لكل مقولات وكلام الأمّة، تنطوي بالتأكيد على ما هو ضعيفٌ أيضاً، وذلك لتعدد روافد وموارد هذه اللغة. أقصدُ هنا بالروافد مصنعَ اللغة، حيث تجري صياغتها، أو سبكها، ومن هذه الروافد الغنية والثمينة والحيوية: الشارع. فالشارع، أو المجتمع المحليّ، بمفرداته وخطابه الشعبوي، ومبادراته اللغوية العفوية، وابتكاراته واشتقاقاته اللغوية التي تفرزها حاجته اليومية للتعبير، بما تحمله هذه الحاجة من ظرافات وطرائف أو من إضافات غنية ومبدعة، هو صانع عبقري من صنّاع اللغة، ومن "المورّدين" المهمّين والأوائل لخزنتها الثمينة.
فـ "الكلام" هو المادة الأولية لـ"اللغة"؛ حيث الارتجال كان سابقاً على الكتابة والتدوين، وهنا تبرز الحاجة الضرورية لمراقبة هذا المورد من موارد اللغة؛ حيث لا يصلح كل ما يقوله الشارع لتقوله الكتب، ولا ينفع للتدوين ما ينفع لتقضية الحال في السوق أو الطريق، ولا ينفعُ للشِعر ما ينفعُ للأغنيات الخفيفة.
ومراقبة اللغة، أو حراستها ينبغي أن تتمّ على نحوٍ صارم، حيث لا تتسرَّبُ إليها ظرافات الشارع وخفّته غير المحبَّبة أحياناً، أو تعابيره التي يجري ارتجالها على نحوٍ سريع في مواقف مليحةٍ أو سيئة.
ومن المنافذ الجديدة التي يجري "تهريب" هذه التعابير من خلالها، بحيث تصير جزءاً من اللغة، هو "التلفزيون"، فمن نشرة الأخبار الى الإعلان الى الدراما، تسهم هذه القنوات الثلاث الشديدة الأهمية في إعادة تدوير كلام الشارع وتحويله تدريجياً الى جزء من "اللغة الرسمية"، وهو ما يثقل اللغة على المدى البعيد، ويضاعف من رفوف الكلام الركيك في خزانتها.
ومن المفردات المستفزة التي نقلها الإعلام عن الشارع، وتبنّاها بضراوة غريبة في السنوات الأخيرة كلمة "التشبيح" ومشتقاتها الكثيرة، التي هي بالأصل كلمة حاراتية منفّرة، وكلمة "التطنيش"، ومئات أو آلاف الكلمات التي تتبع للهجات عربية كثيرة، وجرى تطويبها رسمياً عبر الإعلام؛ الذي هو بالأصل يفترض فيه حراسة اللغة لا السطو عليها!
الغد
|
|
|
|
|
|