|
|
|
|
العربية تعاني ترجمة المصطلح والالمانية لاتسلم نفسها بسهولة
محمد المطرود
يكاد المترجم ومدرس اللغة العربية في الجامعات الألمانية (كاميران حوج) مترجم زوسكند وغونترا غراس وغيودو كنوب وشتيفان فايدنر وآخرين، والمشتغل ضمن مشاريع مهمة نذكر منها: مشروع دار الجمل لترجمة الأدب الألماني إلى العربية ومشروع كلمة _أن يكونَ زاهداً في الظهور ومخلصاً للصمتِ الذي يجاري العمل، أكثر من إحساس يأخذ بالتسويق والجعجعة الإعلامية رغم الأهمية، في حواري معهُ أتطرقُ إلى شغلهِ ودراسته وهواجسه المتناهبة من لغات ثلاث: العربية والكردية والألمانية من حيث التفكير بها والترجمة منها وإليها.
* من ضيف على اللغة العربية بوصفك كرديا إلى لغة ليست الانكليزية الأكثر انتشارا ولا الفرنسية، كيف اهتديتَ إلى الألمانية، وصرت خبيرا بها، لتترجمها؟
*كالعشق يغزوك مرة، إما أنك تتمنع وتتكابر فتكتئب، أو أنك تسلمه مفاتيحك فيفتح لك بها عوالم معابده ومقاماته. هكذا جرفتني العربية بحروفها الملغزة على كياني مع دخول المدرسة. كان غرقا جميلا تعلمت السباحة فيه وتولهت، أنا الذي ما كنت أفك «عجمة» العربية من قبل، حيث أني نشأت في بؤرة كردية لا تنطق العربية في الشمال السوري. قادتني الحوادث في منتصف تسعينات القرن العشرين إلى ألمانيا وفيها دخلت عزلة أحببتها أيضا لأنها مكنتني من تملي غرائب عالم آخر لم يرض أن يشرع لي درفاته إلا بعد الإمساك بلحن أصواته ومنطقه لغويا. غامرت باقتحام مقام لا يقصر ذهولا عن العربية، راجيا أني اهتديت إليه كما تقول.
* السائد أن الترجمة خيانة، «المترجم خائن» فيما لو كان موهوبا، برأيك هو بذلك يخون النص أم القارئ أم نفسه؟
*عشق اللغتين، لم يجعلهما ضرتين، بل حاولت النحت فيهما كي تتلاءما، تتقاربا. الخيانة تكون حين تخدع إحداهما دون الأخرى. هما عالمان لهما جسدان لكل منهما رائحة وذوق وشهود، تحاول أنت أن تكون ترجمانا لعشقهما في ذاتك. قد تتأتى الخيانة حين تقصيك إحداهما، غيرة أو لأنك لا تلبي رغباتها كما تشاء هي. هذه كبوة يمتعض منها النص ذاته فلا يمتريها، ويشاهدها القارئ فينبذها، بينما هي أشد إيلاما على الوسيط، الترجمان، الذي يئن أنين العنين حين يراها في نص مطبوع بين أيدي القارئ.
* سؤال يرتبط بسابقه، خلال مقارنة سهلة يجريها قارئ ذكي لترجمتك بترجمة رصينة أخرى للكتاب نفسه، يجد روحاً عالية تتعامل مع اللغة، تتجاوزها مهنياً؟
*هذا يعود طبعا على الذوق والمقام. قد يحدث العكس أيضا. فتظن أنك ترتقي باللغة درجة، بينما يجد القارئ الذكي، بوصفك، أنك هبطت بها. أظن أن الذائقة تحكم حسب المعرفة بأحوال اللغة والمجتمع والقراءة وما يحيط بها من علم وإشارة.
* لو استثنيتَ البعدَ التواصلي والمهني للترجمة، هل تتواصل معها بوصفها فعلا إبداعيا يرضي شهوة القول لديك شخصياً ؟.
*يقول صديق: «المترجم كاتب فاشل». لا أوافق على هذا الكلام. الترجمة تعرفك على عمل قد تكون راغبا في كتابته فتكف لأنك ترى غيرك سبقك، أو عالج الموضوع أجمل مما كنت ستفعل. لأن الترجمة دمج لكونين غير متماهيين أشعر برضى ومتعة عما أقوله ترجمة، لأني لو لم أشعر بهما فلن تصل هذه السعادة إلى المستقبل، القارئ.
* يقال إن اللغة الألمانية غنية غنى اللغة العربية، من حيث اتساع القاموس، وعمق النحو وتنوعه، وقابليتها للاشتقاقات والتوليد، وبلاغتها الفريدة، هل تناصر هذا القول؟
*المشهور أن الألمانية لا تسلم نفسها بسهولة الانكليزية، مثلا، لهذا رأيتها في «تعقيدها» كالعربية ولهذا فهي متمنعة، لكنها تراودك تغريك وتستمتلك فإما ترفعك أوتخفضك. إنها بالنسبة لي إضافة كبرى لها فرادتها، وربما هذا هو أحد إسرار إخلاصي لأكون مترجما أميناً لها وخائناً أحياناً إذا اقتصى الأمر ذلك، مع أني أجهدُ في أن تكون هذه الخيانة فنية.
* ألا ترى أن الثقافة العربية توقفت في تواصلها مع الثقافة الألمانية عند أسماء محددة، بحيث صرنا نرى ألمانيا من خلالها، رغم أن هناك بالتأكيد أسماء وتجارب لاحقة وجديدة، تقدم وجهات نظر وأطروحات تجاوزت ما نعرفه؟
*أوافقك تماما على توقف الألمانية عند أسماء بعينها، غالبا عن لغة وسيطة. وبينما كنا نعرف كثير أسماء من لغات شتى، لم نتحرى مكامن الأدب الألماني الحديث والمعاصر. لكننا نرى مؤخرا أن التلاقح بين العربية والألمانية قد ازداد وحركة الترجمة شهدت نشاطا أبرز الحداثة الألمانية على صعد متعددة، لكن يؤسفني القول أن هناك الكثير مما لا يسع القارئ العربي الاطلاع عليه لأسباب لا مجال لذكرها هنا.
* من خلال تجربتك مع عدة لغات قارئا لها وفاعلا فيها، هل يمكن للغة العربية أن تمتلك الجلَد الكافي على التواصل ومنافسة اللغات الأخرى في ظل انفتاح تقني على مستوى الإعلام واجتراح مواضيع جديدة في الكتابة؟
*علاوة على عملي في الترجمة التي تفرغت لها مدة تقارب عشر سنين، أعمل مدرسا للعربية والدارسون من أعمار ومهن مختلفة، من الطالب الجامعي إلى رجل الأعمال والديبلوماسي، ومن الملاحظ أن عدد الراغبين في تعلم العربية في تناقص. يعود هذا بما يعود إلى الزلازل الحادثة في العالم العربي، لكننا أيضا نلاحظ أحيانا كثيرة مصاعب يعانيها المتعلم في متاهات العربية التي نرى فيها نحن متعة، بينما لا يتقبلها المتلقي ويستغرب من تراكيبها أحيانا. فبينما تعرف اللغات الأوروبية الدقة في المصطلح والسياق، نصطدم أحيانا بأن العربية تستخدم الكلمة نفسها في كافة المجالات. هنا تلعب العوامل الحضارية أيضا دورها، فبيمنا القمر علامة الجمال عندنا، يرى فيه الألماني علامة مرض.
وبما أنك ذكرت التقنية فالمعلوم أن العربية تعاني ترجمة المصطلح، مثلا لأن المشرق يعرف مصطلحا يختلف عنه في المغرب، بينما اللغات الأخرى تتقبل المصطلح اللاتيني أو تستولده وتتفق عليه. العربية أيضا تنفتح على هذا أكثر وصارت تتقبل المصطلح كما هو، دون ترجمة، وأظن أن هذا سيعود عليها بفائدة أكبر مما يقول به المتزمتون من ضرورة ترجمة كافة المصطلحات.
* هل عملت على منهج محدد في ترجماتك للرواية؟
*لا. أنا أقرأ النص الألماني عدة مرات وفي كل مرة على مستوى لأكتشف ما الذي يريده صاحب النص، لأن الكاتب الألماني دائما لديه مراجع ومدقق يناقش معه نصه ودلالات الكلمة وسياق الجملة وأعتبر أن علي أنا أن أحترم جهود كل هؤلاء ومحاولة تقديم النص بمستوى ما أفهم أن المؤلف أراد أن يقدمه للقارئ الألماني. من المؤكد أن مترجما آخر قد يفهم النص ذاته على مستوى آخر، وهذه تبقى وجهات نظر تقدم للقارئ باللغة المنقول إليها متعة إضافية، قد لا يعرفها القارئ باللغة الأم.
* كنت قد بدأت شاعرا ثم هجرته، لتخلص كليا للترجمة، هل أفهم من هذا أن الشعر لم يعد نافعا، وأنك مثل آخرين تردد « الشعر مايوكل خبز»؟
* سألني صديق السؤال ذاته. لم أعتقد يوما ما أن «الشعر يوكل خبز». الشعر ارتقاء باللغة والحياة إلى مدارات أكثر سموا من «الخبز». أنا توقفت عن الكتابة لأني اقتنعت أني لست بقادر على تقديم جديد. نعم أوفقك على أن التراكم بحد ذاته إضافة، لكني في لحظة ما قررت التوقف ولم أمت بهذا التوقف، فعرفت أن الأفضل التوقف بدلا من اجترار المجتر.
* كيف تعيش يومك ضمن البعد القسري عن سوريا، ومعايشتك الألمانية، لاسيما وأنت أستاذ لغة عربية في جامعة ليست عربية، أقصد ألا يتسلل الحنين إليك ليحبطكَ؟
*لا أبوح بسر حين أقول إن عيشي اليومي في «المغترب» لا يقارن بعيشي في «الوطن». لكل مكان جمالياته التي نكتشفها يوما إثر الآخر، كما له موبقاته. لا يحبطني «الحنين إلى الوطن»، لأني لا أعرف لي وطنا. أحن إلى أمي، إلى ركن مظلم قبلت فيه فتاة، إلى سطح كنت أنام عليه وأنا أنظر إلى النجوم، كما أعيش جماليات اليوم الألماني بهدوئه ونظامه ومشاقه المقرفة أحيانا.
* لماذا نزار قباني لرسالة الماجستير، ولماذا أدب السجون، بحثك المعد لنيل الدكتوراه؟
نزار قباني كان صدفة. كنت أنوي العمل على متصوفة النقشبندية، لكن أستاذي نصحني بعمل في الأدب الحديث وهو الذي يعرف اهتماماتي وبينما نحن في النقاش جاء ذكر قباني. قباني، رغم كل ما يقال عنه يبقى أحد المجددين في الشعر العربي الحديث وممثلا بارزا لصوت الشارع العربي، الذكوري خاصة، بكل ما فيه من تناقضات، من مباهج وعنف يصل حد الاغتصاب، أو الرغبة فيه. لذلك عنونت رسالة الماجستير «الشعر العربي والوعي الجمعي».
*أما عن أطروحة الدكتوراة فلأن الأعمال العلمية المكتوبة عن أدب السجون نادرة، خاصة عن أدب السجون في سوريا. بدأت العمل في أطروحتي قبل ثورات الربيع العربي وعندما قامت هذه تأكدت لدي بعض الأفكار التي أعمل عليها في طرحي الذي ما زلت أعمل عليه.
* بجملة وحداة ماذا تريد بعد؟
*الحياة.
القدس العربي
|
|
|
|
|
|