|
|
|
|

متى يتكلم العلم العربية؟
أ.د. فاروق شوشة
هذا السؤال الشديد الأهمية والخطورة من أسئلة العصر - يطرحه عالم الطب الدكتور محمود فوزى المناوى عضو مجمع اللغة العربية فى كتابه المثير للاهتمام: العلم واللغة: متى يتكلم العلم العربية؟
واللافت للانتباه أنّ الذى يطرح السؤال طبيب، مشتغل بالعلم، عميق الاتصال بالثقافة العلمية، ومنشغل جدًّا بقضية تعريب العلوم، وتدريسها باللغة العربية فى مدارسنا وجامعاتنا.
والدكتور المناوى حين يفكر ويكتب ويؤلف بالعربية، فهو يقدم المثال الذى ينبغى أن نتأمله بإعجاب، ذلك أنه يطبق ما يؤمن به، ويؤكد أن ارتباطه باللغة العربية وانتماءه لها وتعبيره بها تجسيد لهويته وانتمائه إلى وطنه، وضرب المثل والقدوة أمام من يتعللون بشتى العلل والمعاذير فى عدم تقبلهم لتعريب العلوم والتعليم بالعربية. والفكرة الأساسية فى الموضوع الذى يطرحه علينا فى كتابه - الذى يضم إلى جانبه موضوعات أخرى تتصل بالعلم والثقافة، وتكامل الحضارات، وتاريخ وأخلاقيات فى الطب، وخمسة آلاف سنة من الطب فى مصر، ومصر والطب العربي، وتعريب التعليم العالى والجامعي، ومعنى اللغة الأم: ما المفهوم وما المقصود؟ - الفكرة الأساسية كانت موضوعًا لمحاضرة ألقاها فى مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات العربية والإسلامية بالرياض عام 2006 تحت عنوان: متى يتكلم العلم العربية: الطب نموذجًا. هى إذن فكرة أصيلة وراسخة لديه، وكلما مرت به السنوات والتجارب والمواقف، اقتنع بها أكثر وأكثر، ولم يتوقف عند حدود الاقتناع بل أخذ يدعو لها وينادى بها فى كل موقف وكلّ مناسبة. يؤمن الدكتور المناوى بأن اللغة - أية لغة - تقوى بقوة أبنائها وتضعف بضعفهم، ولولا القرآن الكريم يحفظها فى الصدور وعلى الألسنة، لعصف بها ما عصف بلغات أخرى تراجعت مكانتها بتراجع مكانة أهلها، وأن النهضة الأوربية قد تكونت فى جانب منها بما نقلته عن لغتنا، فقد أتى علينا حين من الدهر- منذ منتصف القرن السادس عشر - تعرّضنا فيه للتضعضع وتأثرت لغتنا بأوضاعنا، فى حين كانت أوروبا تنشط فكريًّا وعلميًّا، بعلم تجريبى وفكر جديد، فانتزعت منا قصب السبق علمًا وقوة، ثم ظهرت علينا فى العصر الحديث بعلمها وقوّتها وثقافتها. ومع بزوغ القرن التاسع عشر، شهدنا بعض الصحوة، وعاد الطب يتكلم العربية من جديد، مستشهدًا بمدرسة طب قصر العينى الذى هو بيت الطب العربى الحديث. فمنذ نشأته وهو يضم بين صفوفه طلبة من العرب، وبخاصة من سوريا ولبنان، منهم فى عهد محمد علي: يوسف إسطفان، وغالب الخوري، والجراح النجار، ويوسف الجلخ، ويوسف الخان، وميلاد صغير، وإبراهيم صافى ثم شاكر الخورى وإليال المرور، ونقولا لويس. وقد أصبح هؤلاء الأعلام الرواد المرجع الطبى لأبناء سوريا ولبنان فى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وظلت اللغة العربية لغة الدراسة بطب قصر العيني، وظل الأساتذة يؤلفون كتبهم الطبية بالعربية إلى ما بعد الاحتلال البريطانى نحو عشرين عامًا كاملة، حتى جاء كرومر - المعتمد البريطانى فى مصر- فظل يضيّق الخناق على مدرسة الطب حتى تراجع عدد الطلاب بها إلى أقل من ثلاثين طالبًا، وفى عام 1903 اكتملت المؤامرة ونُحيت اللغة العربية عن دراسة الطب وحلّت اللغة الإنجليزية مكان اللغة العربية.
ولا يفوت الدكتور محمود المناوى أن يعرض لقول القائلين بأن تعليم الطب - والعلوم عمومًا - باللغة العربية من شأنه أن يزيد العزلة، وأن يكون رفضًا لثقافة الآخرين ولغاتهم، بزعم أن ذلك يخالف أعرافنا ويناقض قيمنا. ويردّ بأنهم سيفاجأون بأن الإجابة هى أننا نريد الارتفاع إلى أقصى حد آمن بكل الثقافات من علوم حديثة وتقنيات رفيعة المستوي، ذلك أن تعلم اللغات - أيًّا كانت - لا يؤثر على ثوابتنا، بل إننا نرحب بأن يتعلم المرء لغة واثنتين وثلاثًا، واستيعاب ما يستطيع من لغات ومعارف، يسهم بها ومن خلالها فى إثراء التنوع الثقافى للبشرية كلها.
وهو يؤكد ما يقوله أى منصف لنفسه، وللغته، ولقومه، ولأمته وبلاده، بأن أخطر الخطر وضع لغة أجنبية فى مكان لغتنا القومية، وبدء أطفالنا بمعرفة أصول لغة أجنبية عنهم، قبل أن يعرفوا أصول لغتهم، لغة ثقافتهم، لغة تاريخهم، لغة تراثهم، لغة عقيدتهم.
ويشير الدكتور المناوى إلى أن القضية فى الأساس هى قضية سياسية تحتاج قرارًا سياسيًّا يتبناها ويؤازرها ويدافع عنها. لأنه يفتح الطريق إلى الدعم المالي، وتيسير النفقات وتحمل أعباء التكاليف، وأن يكون القرار السياسى جامعًا على المستوى القومي، يؤكد إصرارنا على أن يتكلم العلم بالعربية، لا الطب وحده. فالطب الآن مرتبط بعدد من فروع العلوم، ووثيق الصلة بالتكنولوجيا العالية، سواء فى التشخيص أو فى العلاج. الأمر الذى يتطلب موازنات سخية للإنفاق على البحث العلمي، باعتباره مدخلاً مهمًّا لأن تكون لنا إبداعاتنا وابتكاراتنا فى هذا المجال، نُعرف بها، وتزهو بها لغتنا. ثم إن تحديد الزمن الذى تصبح بعده العربية لغة الدراسة فى الجامعات والمعاهد العلمية العليا، متوقف على إقناع جمهور المثقفين وأصحاب القرار بمبدأ صلاحية اللغة بدون قيد ولا شرط، وترسيخ الفكر العربى وتقويم العقلية التى أصيب بها بعض مثقفى هذه الأمة، حتى تستوعب التغييرات المأمولة فى الاعتماد على لغتنا القومية لغةً للدراسات العلمية. ويبدأ ذلك كله بالتركيز حول ممارسة التدريس الجامعى فى الكليات العلمية والبحث العلمي، والتأليف باللغة العربية، التى تُعد السبيل الوحيد الذى يمكننا من تنفيذ تعريب العلم فى الوطن العربى بأسره. وفى ختام هذا البحث الضافى والمهم، يطرح الدكتور محمود المناوى خطة عملية لتحقيق ذلك كله، حتى يتحقق الغرض منه وهو جعل اللغة العربية وافية بمطالب العلوم فى تقدمها، وملائمة لحاجات الحياة العصرية. هذه الخطة تتطلب مسايرة التقدم المذهل والسريع فى التطور العلمى والتكنولوجى وملاحقته، عندما تكون الدراسات فى المرحلة الجامعية باللغة العربية، أما المصطلحات فتستخدم كما هى فى لغاتها إذا تعذر وجود المقابل العربى لها، حتى يوجد المقابل ويتم تداوله كلما كان ذلك ممكنًا، بالاعتماد على الوسائل اللغوية التى تتمتع بها اللغة العربية فى مجالات التعريب والنحت والاشتقاق وغيرها. وأن تدرس مادة رئيسية واحدة بلغة أجنبية حية فى كل عام دراسى جامعي، ويتم الامتحان بتلك اللغة مع إلزام الطالب برصد المصطلح الأجنبى وحفظه فى حقل اختصاصه إضافة إلى المصطلح العربى إن وُجد، ضمانًا لمواكبة التقدم العلمى العالمى والمتابعة العلمية المستمرة، وإنشاء مركز للمصطلحات العلمية فى كل جامعة، ويتولى مجمع اللغة العربية التنسيق بين هذه المراكز فى الجامعات المختلفة، وأن يخصص جزء قائم بذاته فى كل رسالة ماجستير أو دكتوراه للمصطلحات العلمية فى التخصص، باللغة العربية وما يقابلها بالأجنبية، ولا تُجاز الرسالة إلا بمراجعة هذا الجزء من مركز المصطلحات العلمية بالجامعات، وأن نستمر فى استخدام المصطلح الأجنبى ومرادفه العربى حتى يتسنى لنا ملاحقة التطورات العلمية العالمية المتسارعة.
ويظل كتاب الدكتور محمود المناوى - العالم والطبيب والباحث وعضو مجمع اللغة العربية - شهادة ناصعة وردًّا مفحمًا فى الإجابة عن سؤال: متى يتكلم العلم العربية؟
الأهرام
|
|
|
|
|
|