|
|
|
|

فرنسا الاستعمارية والانشغال بالمسألة اللغوية في الجزائر-1
أ. فريد حاجي
تعالج هذه المقالة موضوعا متجددا، ألا وهو الدعوات المتكررة في الوطن العربي مشرقه ومغربه لتشجيع العاميات، واعتمادها لغة عالمية، والسعي لجعلها بديلا عن اللغة العربية الفصحى. والمعروف، أن هذه المساعي كان قد بدأها المحتل الفرنسي قبل وبعد احتلاله للجزائر في محاولة منه إلى الهيمنة الثقافية، وإضعاف العربية وعرقلة عملية النهوض بها، والتمكين للفرنكفونية المتسترة وراءها.
والجدير بالإشارة، أن مسألة انقراض اللغات لا يعني ذهاب جهاز اتصالي، وإنما يعني انقراض أمة وضياع ثقافة، ولهذا السبب نلاحظ انبعاثا كبيرا للهويات اللغوية، حيث محاولات كثيرة لمواجهة تحدي الواحدية اللغوية التي تبشر بها العولمة التي لا تعني هيمنة اللغات الغالبة، وإنما تعني في النهاية هيمنة النموذج الثقافي المختزن في رموز الاتصال. (1)
لقد سبق للاستشراق الأجنبي بشكل عام، والفرنسي بخاصة، أن اهتم بحقل دراسة العاميات العربية مبكرا، وازداد أكثر البحث في هذا المجال حين عزم الأوروبيون على غزو البلاد العربية. (2) ففي، فرنسا على سبيل المثال تم إنشاء "مدرسة اللغات الشرقية الحية بباريس" بغية دراسة لغات وثقافات هذه البلدان، وتوسعوا في هذا الشأن بعد تسلطهم على البلدان العربية وتحكمهم فيها، فأحدثوا معاهد عليا لدراسة اللهجات العربية العامية واللهجات البربية لتعليم أطرهم المختلفة، كما ألفت كتب في قواعد هذه اللهجات، ووُضعت معاجم في مفرداتها، (3).
لذا، نحاول في هذه الدراسة الوقوف على مرامي المحتل الفرنسي وراء اهتمامه بهذا المجال قبل الغزو وبعده.
أولا: الاهتمام بالعربية قبل الغزو
لم يكن اهتمام الأوروبيين بتعلم اللغة العربية عامة، والعامية بشكل خاص؛ مما ظهر في العصر الحديث، فقد وجد منذ عهد بعيد. (4). وقد تجلى ذلك في إقبال الباحثين على دراسة العاميات العربية واهتمامهم بتدوين ألفاظها ونصوصها. ولا شك أن لهذه الظاهرة بواعث وأسبابا وأغراضا وأهدافا؛ ذلك إن اشتغال الاستعمار وأدواته الاستشراقية بدراسة اللهجات العربية (5) لم يكن محض اهتمام علمي، ولم يكن بريئا ولا خالصا لوجه العلم، بل استدعته تلك العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين فرنسا والإمبراطورية العثمانية، وبلاد فارس؛ حيث كانت في حاجة إلى متمكنين من اللغات الشرقية، ومنها على وجه الخصوص التركية والعربية والفارسية ليكونوا في خدمة سفارات وقنصليات فرنسا في هذه البلدان.(6).
لهذا الغرض، أقدمت فرنسا على إنشاء "مدرسة اللغات الشرقية الحية" والتي تعود فكرة إنشائها إلى "لويس لانجلس" (7) الذي كان يقوم بتدريس العربية بمعية "كوسين دي بارسفال" (8) والفارسية مع "بير روفان" (9) وذلك في المدرسة الملكية. وقد حدّد "لانجليس" الغاية من إنشاء هذه المؤسسة في عام 1790م بقوله: "إن لتعلم اللغات الشرقية أهمية تكمن في توسيع التجارة، وتقدم الآداب والعلوم" (10).
وفي تقرير آخر دعا إلى ضرور تعلّم اللغات العصرية "الحية" وليس اللغات القديمة "الميتة" بعبارة أخرى، اللغات ذات الفائدة السياسية والاقتصادية، بمعنى تكوين دبلوماسيين، قناصلة، مترجمين، متوجهين إلى الحاضر وليس فقهاء في الماضي (11). كذلك، يمكن استشفاف الغاية من هذه المؤسسة الوليدة مما جاء في مرسوم إعادة تنظيمها عام 1869م، والذي جاء فيه: "إن هدف الدروس، هو تعليم الطلبة القراءة والكتابة وتكلّم اللغات، وتعليمهم الجغرافيا السياسية والاقتصادية للبلدان الناطقة بهذه اللغات" (12).
وقد خصّص مرسوم إنشائها في 30 / 03 / 1795 م كرسيا واحدا للعربية الفصحى والعامية برئاسة "دو ساسي" (13) وحين رحل هذا الأخير، خلفه "ميشال صبّاغ" (14) الذي كان يقوم بتدريس العامية منذ عام 1803 ليقوم بتقديم دروس في الكتابة والنطق والمحادثة العربية. وفي عام 1810م، أضيف كرسي ثان "للعربية العامية" المشرقية تارة، والمغاربية تارة أخرى، ومنها اللهجة الجزائرية التي يدرّسها كل من "شوربينو" (15) و"هوداس" (16). أما الفصحى فكانت من نصيب "دوسلان". (17) وفي عام 1909، أنشئ كرسي ثالث تحت مسمى "العربية المغاربية". وإذا كان الكرسي الأول الذي تم إنشاؤه في عام 1820م تحت مسى "الفصحى والعامية" فإنه حمل اسم "العربية المكتوبة" في عام 1832م، ليتوقف في عام 1867م بعد وفاة المشرف عليه وهو "جوزيف رينو" Reinaud (18). وقد أعاد فتحه وزير الحرب في عام 1875 وذلك لحاجته إلى مترجمين في الجزائر، وكلّف "ديرانبورج" (19) بتقديم دروس في العربية المكتوبة، وإعادته بشكل رسمي ابتداء من عام 1879م. (20).
وبالموازاة مع ذلك، اجتهد القيّمون على تدريس العربية العامة من أساتذة مدرسة اللغات الشرقية في إصدار نحو 24 كتابا، محاولين فيها تقديم وصف علمي للعربية، والعمل على جعلها في متناول الطلبة، وهي ذات طبيعة تعلمية أساسا، وتخصّ:
القواعد: وعددها 6 كتب؛مختارات أدبية قديمة: وعددها 9 كتب؛معاجم: عددها 5.كتب: وعددها 4.
ومن بين هذه الكتب، كتاب في قواعد العربية من تأليف "دو ساسي" تم تأليفه في عام 1805م، ولم ينشر إلا في عام 1810م. أما الكتاب الثاني فكان لـ"كوسي" بعنوان "قواعد العربية العامية" نشر في عام 1821. ومن بين ما جاء في مقدمة كتابه ما يلي (21): "(...) إن ارتياد وتنوّع علاقاتنا مع البلاد الناطقة بالعربية يعطي أهمية خاصة لهذه اللغة، وإن المعرفة العملية لها تمنح مزايا ثمينة للأشخاص الذين تتطلب مهامهم الدبلوماسية والمضاربة التجارية في البلدان الإسلامية، والرغبة في دراسة طبائع وأفكار الشعوب وإثراء الجغرافيا أو تنوير التاريخ باكتشافات جديدة (...) ويأتي أيضا قصد التسهيل للمترجم، والمفاوض، والمسافر من التواصل الشفهي والكتابي مع العرب، وتقليص قدر الإمكان المدة الزمنية التي يتطلبها تعلم الأجنبي الذي ينتقل إلى الشرق لدراسة العربية، وهو مضطر إلى تحمل ذلك، ولا يختلف الأمر، حتى وإن كان تعلم هذه اللغة العالمية في أوروبا نفسها، وذلك هو الهدف الذي سطرته لهذا الكتاب.
مهما يكن، إذا كانت نوايا هؤلاء كانت لمصلحة اقتصادية وتجارية في هذه المرحلة، فإن أهدافهم بعد غزو البلاد العربية بدءا بمصر، ثم الجزائر قد أخذت منحى آخر، وهو ما نحاول الوقوف عليه:
ثانيا: الاهتمام بالعربية بعد الغزو
من المأثور عن شارل ديغول قوله: "لقد صنعت لنا اللغة الفرنسية ما لم تصنعه الجيوش". فاللغات لا يمكنها أن تعلن حروبا فيما بينها، ولكنها أدوات طيعة بيد الذين يشعلون الحروب، فيتوسلون بها إلى الحفر في الأعماق البعيدة للنزاعات، والمنتصرون في الحروب هم الأسياد الجدد الذي يرومون فرض لغة واحدة.
إن الصراع حول اللغة ليس صراعا محايدا، والحديث عن استعمال لغة بدلا من أخرى، لا يكون محكوما بالاعتبار اللساني أو اللغوي أو التربوي، وإنما هو يتعدى ذلك بكثير، إذ يتأطر بالمقاصد السياسية والحضارية الكبرى، ويمتد ليعبّر عن جوهر الصراع والتوتر الحضاري الراهن. وإذا كان الاستعمار الفرنسي يعادل الاستعمار البريطاني في استغلال الشعوب والهيمنة على مقدّراتها، فإن ما يميّز الاستعمار الفرنسي هو شراسته في الاختراق الثقافي والتشطي اللغوي، حيث استطاع أن يكسب عددا من الأتباع الذين يدافعون عن الحضارة والثقافة والمصالح الفرنسية في الجزائر، أكثر مما كان يتمنى إبان فترة تحكمه العسكري. (22).
ومنذ دخول المحتل الفرنسي إلى الجزائر، انقلب الوضع اللغوي رأسا على عقب، بفرض اللغة الفرنسية بالقوة، وسلب العربية دورها الأساس الذي كانت تقوم به في المجالات الرسمية كلها، ولم يبق إلا الحيز الديني وحيز ضئيل جدا من المجال التعليمي من خلال المدارس الدينية (23).
تجليات انشغال المحتل الفرنسي بالمسألة اللغوية:
حين أصبح المحتل بين ظهراني المجتمع، كانت اللغة أحد الإشكالات العويصة التي واجهته، ذلك أن الجنرال "بيرتزن" بصفته حاكما عاملا للجزائر (مارس 1831 - دسمبر 1831) راسل وزير الحرب آنذاك الماريشال "سولت" بتاريخ 25 / 07 / 1831، قائلا: "(...) إن جهلنا للغة والاختلاف في الدين، كانا من أكبر العوائق التي لا يمكننا تجاوزها" (24). إن المتأمل في كلام "بيرتزن" يراه وجيها في ظاهره، لكن التصريحات المتوالية لقادة الاحتلال، من ساسة وعسكريين، بل ومنظرين بشأن هذه الإشكالية، لا تنم عن هاجس التواصل مع الأهالي فحسب، بل كان الهاجس الأساس، هو ما وراء اللغة (25) وهو ما أفصح عنه "بروسون" (26) في رسالة إلى المفتش العام للتعليم، إذ من بين ما ورد فيها، قوله: "(...) إن مهمة فرنسا في الجزائر تتوقف على دراسة اللغة العربية والتوسع فيها، من أجل التعرف على الأهالي والاتصال بهم، كما أن الاستعمار نفسيه (أي الاستيطان واستغلال الأرض) يتوقف عليها. ولا يكفي الاعتماد على المترجمين". ثم أكد على "(...) ضرورة دراسة اللهجات أيضا كلما توسع الاحتلال في الجزائر" (بل إن) الإدارة سوف لا تقبل مستقبلا إلا من يعرف العربية والفرنسية". من جهته، يقول الدوق "أومال": "(...) إن معرفة العربية ضرورية لتقربنا من الجزائريين، وإن الجيش الفرنسي الذي عبر البيبان كان يعرفها، وهو ما مكنه من العبور ولم يكن الجيش في حاجة إلى مترجمين". ويقول "ج. بوجولا" في هذا الصدد: "(...) إن الأوروبيين كانوا في عام 1844م، يتعلمون العربية لتكون علاقتهم مع الأهالي أكيدة ومثمرة (...) وأن تعلمها شرط أساسي لتسريب الأفكار والعادات والثقافة الفرنسية إلى الأهالي مع منح رجال الدين حرية تعلمها كي يتصلوا بالأهالي، ويبثوا الأفكار النصرانية عن طريقها" (27).
والسؤال الملح هنا هو: لماذا تحوّل اهتمام المحتل من مجرد الرغبة في التمكن من أداة للتواصل، إلى توظيفها كسياسة ثقافية؟
تشير مختلف الدراسات إلى أن المحتل بعدة غزوه للجزائر، أولى اهتماما بالمشهد اللغوي في الجزائر، حيث عكف على دراسة العربية الفصحى ولهجاتها، والبربرية وتفرعاتها، وهو ما يستدعي البحث في خلفيات انكبابه على ذلك من الناحية السياسية وليس الألسنية.
قد تكون كلمة "طوكفيل" مدخلا لتناول قضية اللغة في سياسة المحتل، فمن خلالها تتضح ملامح هذه السياسة منذ السنوات الأولى للاحتلال، إذ كتب قائلا: "(...) إنه لم تكن لنا أي أفكار واضحة عن المنطقة، سواء فيما يخص الأعراق التي تسكنها أم نواميسها الاجتماعية، نجهل أبسط المعاني لأي كلمة من اللغات التي يتحدثونها (...) ومع ذلك، لم يمنعنا هذا من الانتصار (...) لكننا لم نلبث بعد المعركة أن أدركنا أنه لا يكفي هزم أمة للتمكن من حكمها (28). ومن ثم ما المطلوب بعد هزيمة السكان؟"
لعل ما يميط اللثام أكثر عن خلفية المحتل وراء تعلّم اللغة العربية، هو كلمة الافتتاح التي ألقاها "برنييه" بهذه المناسبة، إذ من بين ما ورد فيها قوله: "(...) إن الدراسة الجادة للغة العربية فوق أرض تستعمل فيها مشافهة، بإمكانها أن تمنح بلادنا امتيازات جمّة بجعل العلاقات مع الأهالي تطّرد وتتعاظم، كما يمكنها أن تحملنا على معرفة وتقدير ذهنية الشعوب التي لسنا مطالبين بتسييرها فحسب، بل كذلك بتلقينها شيئا فشيئا أفكار حضارتنا الواسعة، بشكل أفضل". ومن ثم، لم يكن المحتل يهتم باللغة من أجل التواصل وحسب، بل لما لها من علاقة وثيقة بثقافة المجتمع، من منطلق أن الفرد يتأثر باللغة التي يتحدث ويتواصل بها أبلغ تأثير، ويمتد هذا التأثير ليشمل تفكيره وتصوراته وعقائده، ومشاعره وعواطفه، وسلوكه وإرادته وجميع تصرفاته، وهو الدور الذي أبرزه "برينييه" في كلمته، حين قال: "(...) إن دراسة آدابها (...) ستؤدي بنا إلى معرفة خبايا عبقريتها وطرافة عقلها (...) وكذا كتبها في العلم والتاريخ والقضاء والدين (...) بواسطة هذه الدراسة (...) سيتم الارتقاء إلى مصدر أفكارها ومعتقداتها وعاداتها (...) وحين نقف على ما يشكل أساس تربية الشباب، سنستطيع أن نرفع تدريجيا هذه التربية إلى مصاف تعليمنا". وقد أوحى في كلمته إلى الحضور، أنه لا يرجو منهم تعلّم اللغة العربية لأغراض تثقيفية، وإنما تحسيسهم بضرورة (...) تحاشي ارتكاب الأخطاء الفاحشة المضرة بمكانتنا ومصالحنا على حد سواء (...) ترى أنى لنا بلوغ المرامي البعيدة دون بذل الجهد والعمل؟ (29). ومن هنا، يأتي حث الفرنسيين على تعلم العربية حسب "هـ. ماسي" من منطلق النظرة إليها كـ "(...) وسيلة للتغلغل السياسي، وليست عنصرا من الثقافة الفكرية لهم (30). ومن ثم، ما شأنهم وهذه اللغة التي قادت "الأهالي"- حسب زعمهم- إلى ما يعانونه من تخلف، وما يتميزون به من "تعصب" جراء عقيدتهم التي تعد هذه اللغة "المنحطة" وعاءها".
إن ما كان يهم المحتل من تعلم العربية، عامية أو فصحى، هو الوقوف على دور العامل الديني كدافع إلى مقاومة الاحتلال وكحصن منيع للمجتمع من جهة، وفهم العلاقة بين مرجعيته كثقافة واللغة، ومدى تأثيرهما على بنيته الذهنية والفكرية، وذلك ما يتجلى في قول "هـ. ماسي": "(...) كلما أبدت مجموعة من الأهالي مقاومتها، إلا وتسلط عليها الأضواء لتكون محل سلسلة من الدراسات" (31).
الشروق
|
|
|
|
|
|