للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي الحادي عشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

فرنسا الاستعمارية والانشغال بالمسألة اللغوية في الجزائر-2

أ.فريد حاجي

ما يستشف من مقدمة كتاب "برينييه" المعنون بـ"المبادىء الأساسية للغة العربية" - نظريا وتطبيقيا- حيث ورد فيها: "(...) لسنا في حاجة هنا إلى التوسع في ذكر الفائدة العملية والعلمية للغة العربية في الوقت الراهن (...) وكلنا يعلم أنها ستكون الأداة الضرورية لعلاقتنا مع الأهالي ولمدة طويلة (...) وكذلك الوسيلة الأكثر فاعلية لممارسة فعلنا الإداري والحضاري على الجماهير". ويضيف في خاتمة المقدمة قائلا: (...) أهدي هذاالكتاب إلى الطلبة الذين لهم هدف عمليّ، وإيجابي، خصوصا لطلبة مؤسسة لها مستقبل، ألا وهي مدرسة ترشيح المعلمين التي تعد لهم وسيلة للقيام بالمهمة النبيلة التي تم تسطيرها لأرضنا الإفريقية" (32).

أشرنا فيما سبق إلى أن المحتل سعى من وراء التمكن من اللغة العربية في أربعينات وخمسينات القرن 19م، إلى الغوص في كنه ثقافة المجتمع ذات الصلة الوثيقة بالدين الذي يحول دون التقارب بين "الشعبين" الفرنسي والجزائري، كما رأى أن التخلص من هذا الحاجز/ العائق، يمر حتما عبر القضاء أو تهميش أداته وهي اللغة. وإذا كانت الغاية هنا واضحة ومفهومة، فإن ما يستوقف الدارس، هو ذلك الاهتمام الذي أولاه المحتل- والقوى الاستعمارية الأخرى - لموضوع اللهجات (العاميات) العربية والبربرية، وهو ما يدفعنا إلى طرح تساؤلات من قبيل: هل كان ذلك فضولا علميا؟ هل كان بالفعل حماية لها من الاندثار، أم توظيفها لخدمة قضية الاستعمار؟

من الشائع لدى الكثير، أن العقل الغربي، والفرنسي بخاصة موسوم بحبه لـ"الفضول العلمي" والميل إلى الترف الفكري، وما كتاباته عن تقاليد الجزائر وأعرافها في المدن والقرى، وعن الدين وكيفية ممارسته لدى الجزائريين، وعن الزوايا والطرق الصوفية والشيوخ وتأثير ذلك في عقلية الجزائريين، وعن الحرف والمهن التقليدية وبعض أنواع التجارة في المدن، وأساليب الزراعة والنشاط الفلاحي في البوادي إلى غير ذلك من المواضيع سوى مظهرا لهذه السمة!؟.. فهل تعد تلك الأبحاث في الإتنولوجيا والانتربولوجيا سواء حول عنصر البربر أو العرب، وما يتعلق بهما من خصائص ألسنية وثقافية وجها من أوجه هذا الفضول والترف؟

لقد بادر المحتل إلى إعداد معجم فرنسي/ بربري في العام 1844م حيث ورد في صفحة التنبيه ما يلي: "(...) تبعا لقرار السيد الماريشال وزير الحرب (سولت) المؤرخ في 22   / أفريل / 1842، تم تشكيل لجنة كلفت بتحرير معجم بربري / فرنسي مع قواعد...". وفي هذا التنبيه تم ذكر الأعضاء المكلفين بإنجاز هذاالعمل وهم: "أربعة فرنسيين، وآخر جزائري هو سيدي أحمد بن الحاج علي إمام بجاية.. ". وبشأن خاصية اللغة البربرية، نقرأ في التنبيه: "(...) إن الأبحاث التي قامت بها اللجنة أفضت إلى الإقرار بأن اللغة البربرية رغم خاصيتها الثابتة ممثلة في الوحدة التي اكتشفناها في كل مبادئها الأساسية، عرفت تغيرات وتمازجات بفعل تأثيرات الشعوب التي تعاقب على شمال إفريقيا جراء الغزوات، ولم يكن بالإمكان تفادي هذا التأثير، ما أعطى الفرصة لتشكل عدة لهجات متميزة، وذات فوارق جد جسيمة تستدعي أن تدرس كل منها على حدة وبعناية" (33).

لقد وجد المحتل في التشكيك في هوية المجتمع الجزائري من خلال فكرة "الأثننة" التي استخلصها من المشهد اللغوي في الجزائر دعامة "علمية" لسياسته الثقافية التي أراد من خلالها التأسيس لهوية جديدة للمجتمع "متعدد" الأعراق. وقد أكد على ذلك "هنري فورنيل" حين كتب قائلا: "(...) منذ 1854م إلى 1846م كانت لنا اتصالات يومية مع أهالي الجزائر، واندهشنت للفوارق العديدة التي يتسم بها العرقان، البربري والعربي (...) إن التفكير في معطيات هذا المشكل هوما قادني إلى استنتاج أنه منذ 1830 ونحن نسير في مسار خاطىء، كوننا انشغلنا كثيرا بالعرب، وتجاهلنا بغير حق الأهالي الحقيقيين وهم "البربر" ذلك العرق البارز، المجد، غير المتعصب، والمتمسك بالأرض"(34).

وفي المضمار نفسه، فإن "أ. برنارد" أحد المهتمين بدراسة نفسية الأهالي، تحدث عن الأساس الذي انبنت عليه السياسة الثقافية، وأبعاد ما سمي بـ"الاستكشاف العلمي في الجزائر" حين كتب قائلا: "(...) إن منظري الاستعمار كانوا مع بدايات الغزو يعتقدون أن الجزائر مأهولة بالعنصر العربي فقط، وذلك نظرا لما لاحظوه من هيمنة الإسلام واللغة العربية على السكان، لكنهم عندما اكتشفوا العنصر البربري حاولوا أن يبنوا سياستهم كلها على أساس التمييز بين العنصر البربري المتميز بقابليته للاندماج والعنصر العربي المتعصب..". ثم لفت نظر أقرانه من منظري الاحتلال إلى خلطهم بين مسألة العرق بالمفهوم البويولجي ومسألة اللغة والحضارة، قائلا: "(...) إنه، إذا كان الدم البربري يميل تدريجيا إلى محو آثار الغزاة المشارقة، فإن اللغة العربية والدين الإسلامي مازالا يحققان فتوحات كبيرة لدى البربر" (35).

وفي الثلاثينات من القرن العشرين، وتحديدا في العام 1936 ألح رئيس أكاديمية الجزائر في رسالته إلى الحاكم العام "جورج لوبو" (1935 - 1940) بتاريخ 01 / 02 / 1936 بعد استشارة هذا الأخير له فيما يخص تعليم العربية الفصحى والعامية، ومسائل أخرى خاصة بالتعليم فجاء رده كالآتي: "(...) فيما يخص تعليم اللغة العربية في المدارس الأوروبية طلبت مني تدريسها في جميع هذه المدارس، أذكرك بأنها كانت هناك محاولة صادقة في هذ الشأن في العام 1906 لكنها  لم تفض إلى أي نتيجة، ومن ثم، فمحاولة من هذا القبيل لا تجدي نفعا، وذلك لمقاومة العائلات الأوروبية، ناهيك عن صعوبة وجود من يقوم بذلك (...) إضافة إلى ذلك، فتعليم العامية إجباري في المداس الابتدائية العليا ومدارس ترشيح المعلمين، وهي عملية تلقى صعوبات (...) إن اللجنة تطالب بتدريس العربية في كل المدارس الابتدائية للأهالي. ومن ثم عن أي عربية نتحدث؟ العامية يتقنها كل التلاميذ المعربين، وأنا على استعداد لتعليم الأبجدية للبربر، لكن لا أرى ضرورة في تعريبهم، لأن وجودنا هنا لم يكن لخدمة هكذا هدف (...) بالنسبة للفصحى، فهي تدرس في مدارس المدن الكبرى (...) إن اللجنة تطالب في نفس الوقت بإيجاد وضع قانوني وبرامج تعليم للأهالي ينحو نحو القتارب أكثر فأكثر من وضع برامج تعليم المدارس الأوروبية (...) لكن أنى للأهالي الذين تتجاذبهم إرادة عميقة في الذوبان في حضارتنا ونداءات قادمة من بلدان إسلامية مجاورة (36).

إن هذه الأهداف نستشفها أيضا من عديد التصريحات الصادرة من مختلف الشخصيات الاستعمارية، فعلى سبيل المثال، يقول "أونيزيم روكلي"، مبتكر مصطلح الفرنكوفونية (37): "(...) فيما يخص افريقيا الشمالية، هناك لجهات قبائلية ستموت سريعا (...) ولن يكون أمام أحفادنا أو أبنائهم سوى افريقيا التي ستكون فيها اللغة الفرنسية هي اللغة التي تستعملها غالبية القبائل والحواضر السكنية باستثناء الأقاليم التي تملك تقاليد الكتابة (...) وقد تكون العربية هي اللغة الوحيدة التي ستعيش سنوات" (38). ويقول الجنرال "ليوطي": " (...) من الناحية اللغوية علينا أن نعمل مباشرة على الانتقال من البربرية إلى الفرنسية (...) ليس علينا أن نعلم العربية للسكان الذين امتنعوا دائما عن تعلمها، إن العربية عامل من عوامل نشر الإسلام؛ لأن هذه اللغة يتم تعلمها بواسطة القرآن، بينما تقتضي مصلحتنا أن نطور البربر خارج نطاق الإسلام (39).

كذلك، يقول المستشرق الفرنسي "ج. دومومبين" فيقول بشأنها: "(...) إن الفرنسية - وليست البربرية - هي التي يجب أن تحل مكان العربية كلغة مشتركة وكلغة حضارة (...) وقوام السياسة البربرية هو العزل الاصطناعي للبربر عن العرب، والمثابرة في تقريبهم منا من خلال التقاليد" (40).

لذا، كان التخطيط اللغوي المنتهج من قبل المحتل، يراعي على الدوام إضعاف العربية الفصحى في المجتمع قصد تأكلها، وذلك عبر عملية مزدوجة تتمثل في إقصائها بيداغوجيا، والحط من شأن الدين ثقافيا، وبمثل هذه السياسة الممنهجة - في اعقتاده- يشرع المجتمع في الانسلال التدريجي من إطاره الحضاري. وقد رأى، أن الوسيلة الكفيلة بإقصاء العربية الفصحى والدفع بها إلى التآكل، هو تثمين العربية العاميّة، وذلك بجعلها لغة تدريس، وبها صاغ الكتب المدرسية الموجهة لمختلف المراحل التعليمية، ولكي يقلل من النظرة المقدسة للغة العربية الفصحى في المخيال الجمعي لما لها من ارتباط وثيق بالإسلام، عمد إلى اختيار محتويات معرفية من الثقافة الشعبية كنصوص ضمّنها في الكتب المدرسية بغرض فلكلرة الثقافة الإسلامية، وحتى لا يشعر المتمدرس أن ما يتعلمه بعيد عما ألفه في محيطه الأسري ووسطه.

مهما يكن، فهناك العشرات من الكتب التي تم استصدارها لخدمة هذا الغرض.

هذه بعض النماذج من الكتب المنشورة بالعربية العامية والفرنسية التي وقفنا عليها، والتي كانت معتمدة في المؤسسات التعليمية. وإذا حاولنا تلخيص مضامينها، فهي تتمحور حول مواضيع تتناول تربية الأولاد والزواج وحالة المرأة والعرب الرحالة والحضر والقبايل وبني مزاب والعبيد، وذكر أصول هذه الشرائح، وحكايات وقصص ومحاجيات وأمثال وغناء، وفصل في حفظ الصحة.

مهما يكن، فإن "مدخلات" هذه المعاجم والكتب، هي التي تكشف عن "المخرجات" المتمثلة في "ملمح" الطفل الجزائري "مواطن الغد" في مشروع المجتمع الذي يسعى المحتل إلى تحقيقه في الجزائر. وإذا كان "رينيه باصي" يرى "(...) أن هذه القناعة العامة ترجع إلى التقرير الذي كتبه "شارل سولفى" العام 1846م، والذي أوصى فيه بضرورة تعليم العربية الدارجة لتوفير المترجمين الإداريين والاحتياطيين لدفع فكرة "التقدم" ودمج الأهالي إذا أمكن" (41) فما حاجة المحتل في البحث عن الأصول اللغوية والعرقية للسكان، وفي مدى تأثير لهجة ما على ما جاورها من جهة، وفي كيفية تنقل القبائل عبر العصور واستيطانها جهات عديدة؟.

إن هذا التوجه، ظهر جليا أثناء انعقاد "المؤتمر العالمي للاستعمار" بباريس ما بين 30 / 07 إلى 03 / 08 / 1889م، والذي حضره مقررو السياسات اللغوية في تلك الفترة وأبرزهم "غ. لوبون" إذ يقول: "(...) إن التعليم في الجزائر لم يفض إلى فرنسة المسلمين الجزائريين، بل إن التمادي في التربية على النمط الفرنسي قد تجعلهم أكثر عدائية للأوروبيين، بل سيبدون نوعا من اللامبالاة والاحتقار تجاههم...) بعبارة أخرى، فالتربية التي سنمنحها للعرب قد تخلق لديهم الرغبة في الاستقلال (...) وستكون صرختهم "الجزائر للعرب" "(42).

مهما يكن، فقد خلص المؤتمر إلى جملة من التوصيات، تم تلخيصها في الآتي:

- من مصلحة الشعوب المستعمرة نشر لغتها المكتوبة والشفهية؛

- في حالة وجود لغة للأهالي شفهية، من المستحسن استعمالها كي تؤدي تدريجيا إلى استعمال اللغة "الوطنية" أي لغة المستعمر؛

- تعليم اللغة الوطنية (الفرنسية طبعا) يجب أن يتخلله تعليم المبادىء العامة للأخلاق؛

- يجب أن يتضمن تعليم الأهالي تعلم حرفة يدوية (43).

وعليه، فإن سياسة المحتل في المجال اللغوي تميزت بتناقضات صارخة، فعلى سبيل المثال أن فرنسا نفسها بدأت بالتخلص من اللهجات واللغات المحلية الكثيرة منذ العام 1539م عندما وافق الملك "فرانسوا الأول" على القرار المعروف باسم (مرسوم فيلر كوطري: L Ordonnance de Villers-Cotterèt) القاضي بكتابة العقود والوثائق القضائية بلهجة باريس وما حولها (L ile de France) التي أصبحت فيما بعد هي اللغة الرسمية، إلى أن جاءت الثورة الفرنسية في القرن 18م، فخطت الدورة خطوة أخرى بأن أصدرت عن مجلس الثورة أمرا حاسما بمنع استعمال أي لهجة أو لغة أخرى غير هذه اللغة الجديدة التي أصبحت لغة رسمية للبلاد في كل الأمور الإدارية وفي تعميم التعليم، ومن أجل ذلك خاضت حربا ضارية لتوحيد لغة التعليم والإدارة على حساب اللهجات واللغات المحلية الأخرى التي بلغ عددها العام 1794م - حسب تقرير الراهب جريجوار- ثلاثين لغة ولهجة إقليمية ومحلية من بينها: البروطونية والأوكسيطانية والباسكية والكورسيكية والقطلانية والفلامينكية، والبيكاردية، والبروفنصالية) (44).

ومنذ ولادة النزعة الوطنية اختارت الثورة الفرنسية التعدد اللغوي في البداية، في العام 1870، إلا أنها سرعان ما تراجعت عن هذا الموقف لصالح لغة وطنية موّحدة. ولكي تحقق الجمهورية الثالثة هذا التوحيد اللغوي وليكون متماهيا مع الوعي الوطني الجديد، ذهبت إلى حد تصفية اللهجات الجهوية، حيث قام "ج. فيري" (1832 - 1893م) الذي كان رئيسا للوزراء ووزيرا للتعليم في فرنسا، بالخطوة الثالثة التي اعتبرت من أهم منجزاته، حين أصدر في العام 1881م قرارا بتعميم التعليم وإجباريته ومجانيته وعلمانيته. ولم يكن هذا ممكنا إلا بتعميم اللغة الرسمية للبلاد على أنف بقية اللهجات الأخرى (45).

الشروق

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية