|
|
|
|

مجمع لغوى واحد لا مجامع
د. محمود الربيعي
يسود الجو العربى انطباع صامت عام ـ يخرج أحيانا إلى دائرة العلن ـ بأن مجامع اللغة العربية العاملة فيه لم تؤد الوظائف المنوطة بها فى خدمة اللغة العربية على ماكان ينبغي، ولم تحقق قدرا يعتد به من الآمال العظام التى وردت فى مراسيم إنشائها، وفى هذا الانطباع كثير من الصحة، وبحسبنا أن نعود فنلقى نظرة عاجلة على البنود الواردة فى مرسوم مجمع القاهرة لنرى أنه رغم الزمن المتطاول لم ينجز المعجم التاريخي، ولا يزال يتعثر فى إنجاز بعض البنود الأخري.
وأعول على خبرتى بصفتى عضوا بمجمع القاهرة ـ حين أقول إنه زيادة على موضوع الإخفاق فى إنجاز المعجم التاريخى لا يعطى دراسة اللهجات القدر الواجب من الاهتمام بها، وجعلها عناصر حية فاعلة فى تطوير العربية الأم، ولقد كان من نتيجة ذلك ما نرى من سيادة هذه اللهجات، وتغلبها على العربية الأم، ودخول التغريب، متمثلا فى استخدام اللغات الأجنبية لملء الفراغ المترتب على هذا وتخلى الفصحى من ثم ـ عن دورها أن تكون صاحبة الصوت الأعلى فى أصوات العصر المتصايحة، وهذا أمر يزعج الغيورين عليها ـ مرة أخرى أشد الإزعاج.
وعندى بعض الأفكار فيما ينبغى أن تكون عليه صورة العمل المستقبلى فى شأن محاولة إدخال اللغة العربية إلى معترك العصر الحديث، وهى أفكار أجملها فيما يلي:-
أولا:- أن تتخذ مجامع اللغة العربية فى كل أرجاء الوطن العربى قرارا جريئا بأن تندمج فى مجمع واحد أم، يطلق عليه مجمع اللغة العربية، وهذا يعنى أن نكف منذ اليوم عن الحديث عن مجمع القاهرة، أو مجمع دمشق، أو مجمع الأردن .. إلخ أو عن اتحاد المجامع العربية، ونتحدث فقط عن مجمع اللغة العربية ومنطقى فى ذلك بسيط جدا، وهو أنه إذا كانت اللغة العربية لغة واحدة فمن المنطقى أن يكون لها مجمع واحد، وسيكون لهذا المجمع منذ لحظة تكوينه الصلاحية التى لمجمع القاهرة الآن من أنه يمتلك قانونا ملزما، وقرارات واجبة النفاذ.
ثانيا:- إنشاء دار للترجمة ملحقة بمجمع اللغة العربية تكون بمنزلة «دار الحكمة» الحديثة يحشد لها كل أبناء الأمة من المؤهلين القادرين على نقل المعارف فى دقة وأمانة إلى العربية فى شتى فروع المعرفة من الإنسانيات والعلوم والفنون وعلوم المستقبل وفروع العلوم النظرية فى شتى نواحى الحياة.
يفعلون ذلك فى دأب وصبر، ويقبلون مراقبة دقيقة من مجمع اللغة العربية ويجعلون ما ينجزه العقل الإنسانى متاحا لأبناء الأمه العربية فى وقت يتزامن أو يكاد مع إطلاع أبناء الشعوب الأخرى على هذا الإنجاز ضمانا لسد الفجوة، أو تضيقها بيننا وبين العالم.
وعندى أن إنشاء هذه الدار القومية للترجمة أو دار الحكمة الحديثة أمر حيوى جدا ولنا فى بلاد مثل فرنسا وأسبانيا قدوة، فهذه البلاد ليست الآن مهدا للاختراعات العلمية، ولكنها استطاعت عن طريق الترجمة الوافية الرشيدة الصحيحة السريعة، أن تجعل الناطقين بالفرنسية والإسبانية وهم شعوب كثيرة على علم بما يجرى من تطور معرفى فى العالم وجعلت من اللغتين الفرنسية، والإسبانية لغتين صحيحتين صالحتين للمنافسة على مستوى العالم.
وواقعنا يخبرنا بأن حركة الترجمة لدينا بطيئة جدا ومحدودة جدا وتتم بطريقة شبه عشوائية، وينظر إليها نظرة دنيا وهذا يحول بيننا وبين ما نشهده من تطور معرفى وحضارى ولغوي، ويحول بين لغتنا العربية والاحتكاك الدائم بلغات العالم.
ثالثا:- وقوف مجمع اللغة العربية بما يمتلكه من قرارات واجبة النفاذ ـ سدا منيعا أمام الفوضى المتزايدة فى التعليم بلغات غير العربية، وجعل العربية هى لغة التعليم فى جميع مراحله، وبكل فروعه، فالناظر إلى حال التعليم يدهشه ويحزنه الحال التى هو عليها فى ناحية تبنى غير العربية لغة التعليم فى وطن لسانه العربية وهل سمعنا عن أمه من الأمم تبدأ فى توصيل المعارف للناشئة بغير اللغة القومية؟ وهل سمعنا عن أمة من الأمم تتسبب ـ بهذا الصنيع ـ فى جعل أبنائها يكبرون ـ من ثم ـ على معاداة العربية على النحو الذى نراه ـ على قاعدة أن الإنسان عدو لما يجهل، مما يشهد به الجميع حولنا؟ وأنا فى هذا لا ألوم الناشئة، وكيف ألوم من لا يعرف؟ إنما ألوم الذين انتهوا بهم إلى هذا الوهم الذى يجعلهم يربطون بين تعلم اللغات الأخرى وبين النجاح والتقدم، ويربطون بين تعلم العربية وبين التخلف والإخفاق.
رابعا: خروج مجمع اللغة العربية من برجه العاجي، مما يجعله فى واد والمجتمع فى واد آخر، ووضع يده فى يد وسائل الإعلام المختلفة، والعمل على توحيد رسالتيهما، والتعاون على وقف التدهور الحاصل فى أدوات التوصيل اللغوى فى وسائل الإعلام المكتوبة، والمسموعة، والمرئية مما أصاب العربية بأذى كثير من أصواتها، وصيغها الإملائية وصورها الكتابية، وبنائها الأسلوبي، زحف إلى الشارع العربى وأصبح واضحا فى لغة التخاطب وفى الخط العربى وفى الإشارات المرورية وفى اللافتات الإعلانية فى الطرقات وواجهات الحوانيت.
وعلى مجمع اللغة العربية الواحد إدراك ما فى ذلك من شر مستطير وإدراك أن التصدى له من فوره واجب قومى إن دساتير البلاد التى تنص على أن العربية لغة الأمة كفيلة بأن تجعل من كل مظاهر الفوضى اللغوية مظاهر غير دستورية، ومن ثم فإن ردعها واجب قانونى وهى لا يمكن أن تدخل تحت دعاوى الحرية بحال من الأحوال.
الأهرام
|
|
|
|
|
|