|
|

الحس الجمالي والمسؤولية الاجتماعية
د. رزاق محمود الحكيم
قال النبي ( ص ) : " لايدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. قال رجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة قال إن الله جميل يحب الجمال " رواه مسلم .
أنطلق من هـــذا الحديث النبوي الشريف لأتكلم عن الجمـــال كمظهر من مظاهر الطبيعة والكون، فقد أودع فيهما سبحانه وتعالى سر الجمال والكمال والإبداع ، وأتفن تنظيمهما ، وحفظ توازنهما واعتدالهما ، وجعلهما عامرين بالخيرات والثروات والكنـــوز ، وسخرها للإنسان كي ينتفع بها ويستثمرها في التعمير والبناء ، بما يعود عليه بالسعادة والأمان والاستقرار، فإذا تجلت في عين الإنســـــان وحظيت باستحسانه ، وأثرت في وجدانــــه ، وشعوره وإحساسه ، ظهر ذلك في سلوكه وفكره وعمله وعليه فإن انصراف الإنسان نحو الإنتــــاج والتعمير والتصنيع بروح من الجـــد والمسؤوليـــة ، والوعي والإدراك ، يجعله يحسن الانتفـــاع والموازنة بين المظــاهر الماديـة ، وبين المعايير الخلقية والروحية ، إحساساً منه بالإنسانيـة نحو الآخرين ، وتشوقاً إلى الإحسان والمعروف ، ومحبة للخير ، فإذا أنجــز عملاً مفيداً وأتقنه كان ذلك العمل ظاهرة جمالية ، وعملاً إنسانياً نبيلاً ، وحين يتربى ذوقه ، وينمو إحساسه في هذا الاتجاه السليم فإنه يصبح ميالا إلى الجمال ، نافراً من القبح والسوء ، والظلـــم والأذى والشر ، أمــــا الإنسان الذي لايتربى على الخير والمحبة ، ولايألف الجمـــــال ، ولايشتاق إلى الصفاء والإبداع والفن ، فإنه سيتحول تدريجياً إلى كائن جــــــاف الطباع ، مؤذي ، بل يتحول عن آدميته وإنسانيته ، فهـــو وإن كان يشترك مع النــــاس في الشكل والصورة ، ولكن جوهره فارغ من الإنسانيـــة والخير والجمال ، ومثل الإنســـان الذي يتربى ذوقه وإحساسه على الخير والمحبة ، كمثل المصباح المشتعل الذي يتوهج بالنور ، فإذا افتقد الإحساس بالجمال تحول إلى صــورة إنسان وحسب ، أو صورة مصباح منطفىء فارغ من النور والإشعاع .
إن الصـور الجميلة في الطبيعة تعمق فينا الإحساس بالجمـــال ، وكذلك المجتمع الذي يتربى أفراده على الخير والإحسان ، والنظافة والإتقان ، وإلا فإن الصــور القبيحة تفسد أذواقنا وأخلاقنـــا وسلوكنا ، وإذاً فإن العلاقة بين الإنسان والطبيعة علاقة تكاملية وثيقة : ( ولايمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل ، فإن لمنظرها القبيح في النفس خيالاً أقبح ، والمجتمع الذي ينطوي على صور قبيحة لابد أن يظهر أثر هذه الصور في أفكاره وأعماله ومساعيه ) كما قال مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة .
ونعتقد أن التربية منذ الطفولة على قيم الخير والمحبة والتعاون ، يساهم في ترقية الحس الجمالي والإنساني لديـــــه ، تجاه المحيط الذي يعيش فيه ، والناس الذين يعيش بينهــــم ، ويرتبط معهم بروابط الوطنية والدين واللغة ، والمعيشــة والمصالح المشتركة : ( إن تنميـــة الحس الجمالي وترقيتــه عند الأفراد ، إنما هي تنمية ورقي للمجتمع ، فنحن لانستطيع أن نحرك فرداً من الأفـراد إلى معنىً من المعاني أو عمــــل ينتفع به مالم نحرك فيه إنسانيته ) كما يرى سيد صبحي في كتابه : تنمية الحس الجمالي عند الطفل .
ولعل أخطر المشاكل التي تعاني منهـــــا المجتمعات الناميــــة في الوقت الحاضر تكمن في شيوع النظرة الأحـــادية والفردية ، التي أنتجت الأنموذج النفعي ، الذي ينظــر إلى الآخر من خلال منفعته الخـــاصة ، وبما يمكن أن يعود عليه بالفائدة ، وتبدو خطورة هذه الذهنية في :
1 – إضعاف الحس الإنساني والجمالي .
2 – الميل نحو القسوة والعنف والتخريب .
3 – تفكك العلاقات الاجتماعية .
4 – شيوع الفوضى واللامبالاة ، وانتهــاك القوانين والأعراف ، والقيم الأخلاقية .
5 – اختلال التوازن الاجتماعي والاقتصادي ، وظهور طبقة كبيرة من المحرومين والتعساء .
وإذاً فإن إضعاف الحس الجمالي سيسمح تدريجياً بانتشار ظاهرة الرداءة والقبح ، والغش والاحتيــــــال ، فتضعف نزعة الخيــــر والرحمة والعدل ، والوضوح والنظــام ، والإحساس بالمسؤوليـــة الاجتماعية والإنسانية ، بين الأفراد والجماعات ، فيتحول الإنسان إلى كائن غريزي يتنازع مع الآخرين كي يفوز بالمنافع ، ويحقق المكــاسب ، ويفسد ذوقه وإحساسه ، كمـــا تتبدل نظرته إلى الحيــــاة ، ويقل حماسه إلى الخير والمعروف . قال الشاعر إيليا أبو ماضي :
لاأحب الإنسان يرضخ للوهم ويرضى بتافهات الأماني
إن حياً يهاب أن يلمس النور كميت في ظلمة الأكفــــان
اللبيب اللبيب عندي من أمسى يغني والدمع في الأجفان
إن التربية الجمالية مسؤولية منوطــة أولاً بالأســرة التي تحرص على تنمية الإحساس بالخير والمحبــة لدى الأطفال ، فإذا كبروا كبــر معهم هذا الإحساس الجميل ، واندفعوا إلى ممارســة كل شيء نافـــع ومفيد وجميل ، وارتبطوا مع الآخرين بروابط الإنسانيـــــة ، ومارسوا أعمالهم وفقـــاً لقيم الرحمة ، وحباً في الخير ، وتشوقاً إلى المودة ، ، وشعوراً بالسعادة ، حين يقدم أحدهم إلى عمل إنساني نبيـــل يخفف به آلام الناس ، ويصحح صورة مشينة من صور الحياة الإنسانية البائسة المتمثلة في الفقر والتشرد والتسول وسيكون هــــذا العمل الإنساني أكثـــر جمالا للعين ، وأكثر راحـــة للضمير والنفس والوجدان ، حين تبادر المؤسسات الخيرية بمؤازرة الميسورين من الأغنياء إلى تأسيس دور للعجزة ، والمشردين والمعوقين ، وذوي الحاجات الخاصة ، لرعايتهم والتكفل بشؤونهم .
هذا هو الأنموذج السوي ، الذي يشعر بمسؤوليته الإنسانية والاجتماعية ويعرف كيف يصحح المسارات الخاطئــة ، ويزيل المظاهر السيئة ، ويضع الأمور في الموضع الصحيح الذي ينبغي أن تكون فيـه ، وبذلك يحافظ على جمال الحياة ، ونظافة المحيط ، ونقاوة الضمير والنفس والوجدان .
النفس التي تنشـــــأ على الحق والنظــــام ، والصـدق والوضوح ، وقيم المروءة والفضيلة ، نفس جميلة تنفر من الشر والقبح والغش والرداءة ، أما النفس التي تنشـأ على الرداءة والقبح والكذب والغش ، فإنهــــا تكون مصدر قلق وتشويش وفساد ، إن الجمال والقبح شكل من أشكال الصراع بين الخير والشر ، والحق والباطل ، والعدل والظلم .
المسؤولية الاجتماعية في تصحيح المظاهر الخاطئة في الحياة والمجتمع تضطلع بها الطبقة المثقفة والمتعلمة والمتدينة ورجال الإعلام والمصلحون من خلال تقديـم الأنموذج الجميل في السلوك والعمــــل والمعاملة ، كما قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله : ( إن أول واجب على المثقفيـــن إصلاح أنفسهــــم قبل كل شيء حتى يصلحوا لتثقيف غيرهم ، وثاني واجب هو إصلاح مجتمعهم ، وبالتفــــاهم في إدراك الحيــاة وتصحيح وجوه النظر إليها ثالثاً ) .
واقف متأملاً عند العبــارة الأخيرة في قـــول الشيخ البشير الإبراهيمي : " وبالتفاهم في إدراك الحيـــاة ، وتصحيح وجوه النظــــر إليها " ، إذ ينبغي للمثقف والمتعلم أن يدرك المعاني الإنسانيــــة ، وقيم الحق والعــدل والخير والمروءة ، التي تمثل وجه الحياة المشرق والجميـــل ، فإذا غابت أو غُيبت انحسر عنها شبابها وجمالها ، ونضارتها ونقاؤها وصفاؤها ، وبدت شاحبة مكفهرة ، لينسحب ذلك على المجتمع ، ويطبع حياة الإنسان بالتوتــر والقلق والرداءة والفوضى .
مراجع :
1 – صحيح الإمام مسلم ج1 .
2 – شروط النهضة – مالك بن نبي .
3 – تنمية الحس الجمالي عند الطفل – سيد صبحي .
4 – ديوان الخمائل – إيليا أبو ماضي .
5 – آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي .
|
|
|
|
|