|
|
|
|

الإصلاح اللغوي أساس الإصلاح التعليمي
أ. ادريس مستعد
مأسسة الإصلاح :
إذا كانت مؤسسة " زاكورة للتربية " خرجت بعد ندوتها الدولية بتوصيات إصلاحية و بمذكرة نورالدين عيوش التي أثارت نقاشا و أخرجت عبد الله العروي عن صمته، فالمذكرة، بالمسكوت عنه، تشكك في الإرادة الإصلاحية التعليمية، و تعبر عن الغياب المؤسساتي، فهل مؤسساتنا التربوية و التعليمية ليست لها مصداقية ؟ ما الذي يمنعها من ممارسة واجبها الإصلاحي ؟ ألم يخول دستور 2011 للمجلس الأعلى للتعليم ( برلمان التربية و التكوين ) صلاحيات لحل المسألة التعليمية ؟ هل قدر التعليم أن يشكل" عقدة إصلاحية" تاريخية ؟ أليس هناك " ممكن إصلاحي"؟.
إن محاولة المجلس الأعلى لإشراك رجل التعليم في الإصلاح إلتفاتة تاريخية و رد للاعتبار لهذا "الكائن اللغوي"، لكن رأيه و مشاركته يجب أن تمأسس للتحسيس بأهمية الموضوع و لفتح النقاشات الأولية و الارتقاء بها، و الخروج بأفكار تشاركية داخل مؤسسات موجودة أو يمكن تأسيسها، و إنفاذ الإصلاح داخلها، سواء أحزاب أو نقابات أو جامعات مغربية أو مؤسسات تكوين الأطر كمراكز تكوين مفتشي التعليم و مراكز التوجيه و التخطيط التربوي و المراكز الجهوية و المدارس العليا، و محاولة استرجاع الهم التعليمي الإصلاحي الذي غاب عند بعضها.
إن ثقافة المؤسسة نسق قيمي متكامل الحلقات من أفكار و أقوال و أفعال، ينمو و يتطور انطلاقا من مبادئ و منطلقات متفق عليها، هي التي تمنح القرارات قيمتها، هي التي تجعل الذات تنسجم مع الآخر، فلا قيمة للتفكير أو القول أو السلوك خارج منظومة المؤسسة.
إن المؤسساتية هي الحجر الأساسي في بناء الهوية، من خلالها تتوحد الأحكام و المواقف و القدرات و الكفاءات و تفتح الآفاق، و تكون الرمزية الإصلاحية، رمزية المؤسسات التي تحدد الاختيارات، و تبني "التفكير الاستراتيجي" و تحسم في القرارات.
هذه المأسسة نقتطفها من حوار أخير لوزير الثقافة، الأمين الصبيحي، بجريدة المساء حيث يرى أن اللغة يجب أن تظل فوق جميع الحسابات السياسية و نترك الشأن اللغوي للمتخصصين و الباحثين في اللسانيات و علماء التربية ليقولوا كلمتهم.
أولوية المسألة اللغوية :
تعتبر المسألة اللغوية من القضايا الشائكة في الإصلاح التعليمي لما تحمله من خلفيات ثقافية و سياسية ، فالاختلالات اللغوية و انحباس الأفق أحيانا رهين بالمسار الديمقراطي المتعثر الذي لم يستطع خلق توافق مجتمعي حول اختياراتنا و تعدديتنا الثقافية، فلا تنمية اقتصادية بدون تنمية لغوية، ولا تنمية محلية بلغة أجنبية، و أي تخلف اقتصادي أو اجتماعي هو شريحة و نموذج للتخلف اللغوي، يعبر عن الانفصام بين الإنسان و لغته، فواقع اللغة العربية هو واقع الأمة العربية ، و التحدي اللغوي هو أصل كل التحديات، تحدي الوجود و المصير، فوراء كل مشروع تنموي حياة لغوية، و وراء كل مشكل واقعي مسألة لغوية.
إن التمكن اللغوي سابق على التمكن المعرفي و هو تهيئ لاستيعاب المفاهيم العلمية دون " إعاقة لغوية "، فبقدر تمكن المتعلم من لغة بقدر ما ينجح في المادة العلمية بهذه اللغة، و إذا كان الهدف هو التكوين العلمي و أداته هي اللغة فالمشكلة ستكون لغوية، و بالتالي فإصلاح التعليم يقتضي إصلاح لغة التعليم.
إن الحديث عن إصلاح اللغة في هذه المرحلة رهان مجتمعي بكل تفاعلاته، و ليس خطابا حول العروبة أو الذاتية المنغلقة، فالموضوعية تتطلب تعزيز مكانة اللغة العربية و تحقيق مناعة المجتمع و تماسكه، فالعربية هي الخيط الناظم لاختلافاتنا، فهي ليست لغة منطقة مغربية معينة، و لا لغة الأم أو الأب بل لغة الكل، لم نتعلمها في البيت بل في المدرسة، و ليست لغة العرق، تعلمتها شعوب و أجناس مختلفة و برعت فيها و علمتها، و قد علم بها علماء الأمازيغ المغاربة أنفسهم.
إن "السيادة اللغوية" أو "الأمن اللغوي" أو " التماسك اللغوي" ليس ضد الانفتاح، بل الانفتاح المتعدد للغات سيطرح التنافسية و سيزيل احتكار الفرنسية و تسييجها للواقع المغربي، و الاقتصاديون و رجال الأعمال خاصة يعرفون كم تضيع علينا الفرنسية من الأسواق الأنجلوساكسونية ، لسنا ضد التعددية اللغوية بل العكس هي تقوي من اللغة الرسمية و تفتح آفاقا للبحث و الاستفادة من تجارب الآخرين، لكن المطلوب" الانفتاح الداخلي " أولا، أي الاهتمام ب" القربى اللغوية".
اللغة العربية موحدة للتعددية اللغوية :
إن الخريطة اللغوية المغربية ليست بالتعقيد و لا بالتعدد الذي تعرفه الشعوب الأخرى و لا بعدد الساكنة ولا بالبعد عن الدين كجامع أصلي، بل إن التعددية الثقافية لا يمكنها إلا أن تغني المجتمع، و المغرب لم يعرف تاريخيا أي مشكل في التعايش اللغوي إلا حين تتدخل أغراض استعمارية أو انفصالية، بل حتى اليهود في المغرب اتخذوا العربية لغة نشاطهم و كتاباتهم و تفسير توراتهم.
إن تعدديتنا ليست بالمعقدة شأن بعض الدول التي تصل إلى 200 لغة أو لهجة وطنية كاندونيسيا، التي استطاعت بعد ثلاثة قرون من الاستعمار الهولندي أن تجعل من اللغة العربية جامعا رمزيا للمجتمع الاندونيسي سيمكنها من الإجماع السياسي و تم إلغاء الهولندية و اعتماد الانجليزية كلغة أجنبية أولى، و استمر الحديث الشفوي بمئات اللغات المحلية، بهذه السيادة للغة العربية أصبحت لغة العلوم و البحث و الثقافة و تحققت التنمية الاجتماعية و الاقتصادية و المعرفية، و أصبحت اندونيسيا نمرا أسيويا. في المقابل نجد نيجريا ثاني أكبر بلد مسلم بإفريقيا يعيش ضحية " الحروب اللغوية " لأنه لم يتوحد حول لغة واحدة.
إن اللغة العربية "المضيافة "، محققة الأمن و السلم اللغويين، مؤهلة لتحقيق دور الموحد الجامع، لما حولها من إجماع وطني و عربي و أممي.
و المغرب مؤهل أكثر من غيره أن يتقوى بلغته و أن يحسم هذه المحطة للمرور إلى ما هو أهم، عوض تكريس مقولة " مغرب الفرص الضائعة "، و قد وعى المغاربة تاريخيا دور اللغة بإفشالهم للظهير البربري الذي أراد تحطيم هذه القوة و الإجماع المغربي ، فهذا" برنار برير" Bernard BARERE" عضو لجنة الإنقاذ العام بفرنسا، الذي خاض معركة قوية لفائدة اللغة الوطنية الفرنسية يعتبر أن لغة شعب حر يجب أن تكون واحدة للجميع ويعتبر غير ذلك خيانة للوطن.
و ماذا بعد :
إن السياسة اللغوية المطلوبة اليوم في المغرب يجب أن تحقق الانسجام الاجتماعي والتنمية الاقتصادية والثقافية من خلال إعطاء الأولوية للغة الرسمية وعدم تشتيت الجهود وإضاعة الموارد المالية و تطبيق برامج و خطط أجنبية لا تثير في نهاية المطاف إلا الكراهية و العنصرية.
و ليست اللغة العربية في حاجة إلى الدفاع عنها، بل إن لها نسقا يحميها،هي التي تمنحنا الوجود و الإنوجاد، تأخذ قوتها من رمزيتها و قدسيتها القرآنية فلا خوف عليها من الطمس و الموت شأن اللاتينية و غيرها، إنها تملك مكونات الشهود الحضاري، لكن الإشكال هو كيف نحيا بها ؟ كيف يمكن أن تصبح أداة للإنتاج و التسويق و التفاعل مع محيط اقتصادي دولي مفتوح ؟ فمستقبلها رهين بالامتيازات التي ستقدمها، بفائض القيمة و سيل المعلومات التي ستحملها، و بقدرتها على التفاعل و التنافس و بمردوديتها في مجتمع المعرفة، و بالتنسيق بين الاختصاصات و فتح الآفاق.
هسبريس
|
|
|
|
|
|