|
|

رحيل شاعر وحجاب المعاصرة
أ.د. محمد عبد الله سليمان
رحل من عالمنا الشاعر السوداني محمد عثمان عبد الرحيم في صمت ، وهذا شأن الشعراء والأدباء والمبدعين عموماً . لا نعرف قيمتهم إلا بعد رحيلهم ، ولا نلتفت إليهم إلا بعد نعيهم ، وغالباً ما يشكل حجاب المعاصرة حاجزاً بيننا وبينهم ، وهذه مسألة قديمة في تاريخنا الأدبي ، فكان أبو عمرو بن العلا لايعترف بشعراء عصره ، ولا يستشهد بأشعارهم ، لأنهم محدَثون ، فالشعر عنده يبدأ بامرئ القيس ويختم برؤبة بن العجاج ، ولكنهم أصبحوا بعد مضي عصرهم قامات شعرية يفخر بها الأدب العربي ، كأبى تمام والبحتري وأبى نواس وبشار بن برد إلى آخر القائمة ، وهكذا النقاد في عصرنا لايأبهون بمن عاصرهم من المبدعين إلا بعد رحيلهم ، ولذلك وقف حجاب المعاصرة بين شاعرنا محمد عثمان عبد الرحيم والنقاد ، فلم يتناولوه بالدراسة على الرغم من أنه شاعر مبدع وجزل ، وأنتج شعراً غزيراً .
ولد شاعرنا سنة 1914م ، بمدينة رفاعة التي يحتضنها النيل الأزرق ، ويرسم على شاطئها لوحة فنية بديعة ، وينسج بردة للضفتين جمالها لا يَخلق ، وينشر عبيره الفواح على حدائقها وأهلها .
رحل في يوم السبت 11/ 10/ 2014م ، بعد أن أكمل قرناً من الزمان ، جرى حب السودان في دمائه ، وتنفسته رئتاه ، ناهض الاستعمار الإنجليزي حين كان أحد ناشطي جمعية ( الزعفران ) الوطنية التي كانت تقود النشاط السياسي في كلية غردون التي تخرج فيها دارسا ً لعلم المحاسبة عام 1931 م ، أُودع السجن مرتين إثر مقاومته للاستعمار البريطاني الأولى 1944، والثانية 1948 .
عاصر بابكر بدري رائد نهضة التعليم في السودان ، وعاش معه في مدينة رفاعة ، وعمل معه مدرساً في مدارس الأحفاد للبنات بأم درمان لمدة عامين ، كما عمل موظفاً بالسكة حديد بعطبرة .
شارك في مسابقة القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية في العام 1942م ، في الشعر العربي فأحرز المركز الثاني بعد الشاعر السوري بشارة الخوري .
طبع ديوانه الأول ( رياض الأدب ) _ الذي قدم له الشاعر الكبير إبراهيم ناجي _ ، عام 1947 م ، في القاهرة . وطبع ديوانه الثاني ( ومضات فكر ) عام 2005م ، والثالث ( وقفات على مدارج الاستقلال ) عام 2007 م .
على الرغم من أنه عاش مائة عام إلا أنه كان متقد الذاكرة ، فالشيب والمرض لم يضعفا ذاكرته ، وفطانته ، وصلابته ، وشاعريته ، وحضوره الأدبي .يقول في قصيدته ( بطاقتي ) معرفاً بنفسه وموطنه :
أنا شاعر لم يجر خلف مطامع
يجري ويلهث خلفها شعراء
أنا من ( رفاعة ) من صميم ترابها
يغري انتباهي طينها والماء
وحدائق غناء آتت أكلها
وبراعم وأزاهر ورواء
أبناؤها صحبي وغالب أهلها
أهلي وجل شبابها نبلاء
ومن قصائده الحسان ( أنا سوداني ) ذلك النشيد الذي كتب قبل الاستقلال في منتصف الأربعينيات ويردده كل السودانيين ، ويبعث فيهم الروح الوطنية ، والحماسية ، ويحرك فيهم مشاعر الانتماء ، وقد صدح به المبدع حسن خليفة العطبراوي :
كل أجزائه لنا وطن إذ نباهي به ونفتتن
نتغنى بحسنه أبداً دونه لا يروقنا حسن
حيث كنا حدت بنا فكر ملؤها الشوق كلها شجن
ويفخر في القصيدة بأمته العربية والإسلامية ، ولكنه يأسى على ما أصابها من الفتن ، ويخشى عليها من التعرض لعوامل الفناء جراء ذلك .
دوحة العرب أصلها كرم وإلى العرب تنسب الفطن
أيقظ الدهر بينهم فتن ولكم أفنت الورى الفتن
وشاعرنا لم يكن شاعراً مقاوماً وحسب بل كان رقيق القلب ، رهيف الحس ، " يطأ الثري زهواً ويستهوى الحسان تبخترا " بالتأكيد هذا عندما كان في ريعان الشباب وعنفوانه . اقرأ معي هذه القصيدة الرشيقة ( النداما ) التي مطلعها :
أدر الكأس على العشاق صفوا ومداما
ياحبيب القلب والروح وياروح النداما
أيها الرافل في ثوب من الحسن دواما
ماست الأغصان لما عشقت منك القواما
|
|
|
|
|