|
|
|
|

الرموز الدلالية بين الفكرة المتغيرة والمجايلة
أ. صالح الديواني
لا تنتظر الأجيال في المجتمعات الإنسانية المتعاقبة ـ في العادة ـ من يشرع لها أفعالها وطريقتها في التواصل، وإيصال رسالتها وتبادلها فيما بينها، بل إن ما يقوله التاريخ: إن لكل جيل مفكريه وعقلياته وعباقرته، وإن المختلف اليوم هو المألوف غداً، قاعدة تكاد تكون ثابتة، إن لم تكن ثابتة في أصلها ومنطقها، وتمثل ديناميكية المتغير صلب استمرار إبداعها، ويمثل العقل المبتكر واسطتها، وقيمة النواتج قمة عبقريتها..
المدهش أن الإنسان مهما أنكر على المستحدثات من الرموز قيمتها، سيظل دائماً يدين لها باستمرارية انتقال ثقافاته وأفكاره، فهي التي عقد معها صداقة حميمة شكلت ـ تالياً ـ كل ملامح تاريخه وإرثه، واعتمد عليها لحماية نفسه اعتماداً كلياً، وصنع لغته الخاصة التي نقلت أسراره، وحفظت خططه وبرامجه ويومياته.
اليوم نرى عدداً كبيراً من علماء اللغة أو الدارسين المهتمين باللغات الإنسانية الحرفية، يخشون على عرش اللغة بوصفه كيانا، ويقيمون الندوات والمؤتمرات تلو الأخرى، مراهنين على قدرتهم في الحد من سرعة التغيير القادم، وحركة النحت الذي يصنعه كل جيل على جداره الزمني شكلاً ومضموناً، وهذا يحمل منطق طبيعة التعاقب، وروح التغيير، ولا يجب أن يكون دافعاً لكل ذلك القلق الذي تبديه جهات ما، تعتبر نفسها ذات علاقة مباشرة بصلب اللغة، وأظن أن منطلقاتها أيديولوجية بحتة، مستندة ـ أحياناً ـ إلى تعليمات دينية بحتة أيضاً، وهنا يكمن أقوى خطوط دفاعات هذه الجهات، ولا شك في أنها ستأخذ وقتها وعنفوانها ونصيبها من الوقت، لكنها وأكاد أجزم أنها ستلحق بسابقاتها من الحركات والجهات التي تبنت فكر المواجهة، وأنها ستخضع لسلطة المتغير الجديد مهما كان جبروتها...
يقول أمين عام مجمع اللغة العربية الأردني الدكتور عبدالحميد الفلاح: "إن لغة التفاهم الدارجة بين الشباب هذه الأيام في مراسلة بعضهم عبر الخلوي والإنترنت، لغة هجينة باتت تؤرق أولياء الأمور وعلماء اللغة وتحتاج إلى ضبط لغوي وسلوكي، وإن الآثار السلبية جراء استخدام هذه اللغة لا تقتصر على اللغة العربية فحسب بل تؤثر سلباً على اللغة الإنجليزية بالمقدار ذاته .. وصار دارجا ما يمكن تسميته بلغة "عرب إيزي"، مما يشكل انتقاصا لمفردات اللغتين العربية والإنجليزية معا".
ومن وجهة نظري الخاصة جداً فإن كل هذا الخوف على اللغة بوصفها ناقلا غير مبرر، فالتاريخ يشهد على التحولات التي صاحبت كل أمة، وينقل لنا أن تبدل اللغة لم يكن سوى تبدل في طريقة النقل بالدرجة الأولى وليس مضمون المنقول، وإن كل المعارك السابقة التي حاولت ثني سيطرة الجديد والحديث، قد باءت بالفشل الذريع، والأفضل يكمن في إيجاد البدائل المناسبة التي تضمن استمرار القديم بموازاة الحديث إلى أبعد نقطة ممكنة، والبحث في كيفية إنعاش اللغة لتتماهى مع الجديد، لا أن تتصادم معه، فتصميم اللغة ذاته قد جاء نتيجة تمرد على المألوف وتغيير مستمر للشكل أكثر من القيمة، استوعب معه الزيادات ولم يرفضها، وهذا أمر لا يحاول بعض الدارسين تبنيه أو إظهار تعاطف مع منطقه على الأقل، ومن دون شك فإننا اليوم نقف على مفترق طرق حقيقي، يلزمنا بضرورة فعل شيء ما يخرجنا من مأزق احتمال انهيار نسق اللغة الحالية، فيما لو بقينا نعزلها عن المتغير وضروراته ونرفع رايات العناد والتحدي، والأمثلة التقنية كثيرة على تلك المتغيرات الجديدة، والمتتبع للتاريخ سيلاحظ أننا نتخلى يوماً بعد آخر عن بعض ما نعتقد أنه مسلمات على مستوى اللغة، في الوقت الذي بإمكاننا فيه عقد صفقات مع هذا المتغير بدلاً من مصادمته، وعودة صغيرة في التاريخ ستقول لنا أكثر مما يمكن كتابته الآن أو لاحقاً.
الوطن
|
|
|
|
|
|