|
|
|
|
جاك لانغ: نعيش تطرفاً وصعوداً للعنصرية
سليمان البسام
لطالما طرحت مسيرة جاك لانغ رئيس معهد العالم العربي أسئلة كثيرة راودتني وأثارت فضولي، لا سيما أنه بدأ حياته كرجل مسرح وعمل في صفوف الحزب الاشتراكي الفرنسي، وسرعان ما تسلم منصب الإدارة الفنية لمسارح عامة كبيرة ومهمة في فرنسا، قبل أن ينضم إلى فريق الرئيس الراحل فرانسوا متيران وزيراً للثقافة لأكثر من عقد من الزمن، قبل أن يتولى حقيبة وزارة التعليم لثماني سنوات.
التقيت جاك لانغ لأول مرة حين حضر عرض مسرحيتي «ريتشارد الثالث: مأساة معربة» في باريس عام 2008، وانبهر به وحادثني عقب العرض، وفي عام 2013 حضر عرض «طقوس الإشارات والتحولات» على خشبة «الكوميدي فرانسيز» وأثنى على العرض، أما لقائي الثالث بالرجل فكان خلال زيارته الكويت أواخر سبتمبر الفائت وهنا وُلدت في ذهني فكرة إجراء حوار مطول معه لنشره في صحيفة القبس، واتفقنا على أن اللقاء في مكتبه بمعهد العالم العربي بباريس، وهو ما كان في ظهيرة يوم خريفي ممطر.. وإليكم نص الحوار:
• حدثنا عن رؤية جاك لانغ لمعهد العالم العربي؟
- رؤيتي تتجذر في تاريخ هذه المؤسسة الفريدة على مستوى العالم، والتي من الأساس تم تصورها كنقطة التقاء فكري وثقافي وحضاري بين الغرب والشرق، بين العالم العربي وأوروبا عامة، وفرنسا بشكل خاص. معهد العالم العربي بطبيعته موقع لفتح التواصل والمعرفة على كل الأصعدة في كل الاختصاصات من الفن والمعرفة وحتى الحياة العامة.
نعيش في عصرنا اليوم تطرفاً وعنفاً بجميع الصعد في بعض البلدان العربية، وصعود العنصرية في بعض البلدان الأوربية، الأمر الذي يزيد من أهمية مشروع معهد العالم العربي في هذه المرحلة من أجل تقليص سوء الفهم ومن أجل محاربة الجهل، ولإعطاء العالم العربي صورة أكثر إيجابية وأقرب إلى واقع هذا العالم، ونعقد في هذا المجال في منتصف يناير من العام القادم وتحت إشراف مدير تحرير صحيفة «لوموند» كريستوف إيياد ملتقى حول تجدد العالم العربي، لتسليط الضوء على المبادرات الجديدة في المجالات الاقتصادية والثقافية والتعليمية.
وقد دعونا إلى هذا الملتقى العديد من الشخصيات المهمة من العالم العربي، منهم أيضاً من الكويت مدير عام مؤسسة الكويت للتقدم العلمي الدكتور عدنان شهاب الدين والمشرفة العامة على دار الآثار الإسلامية الشيخة حصة صباح السالم الصباح، وغيرهما من شخصيات مهمة لإعطاء صورة جديدة ومغايرة عن العالم العربي الآن.
وهذا مثالٌ فقط على برنامجنا الحافل.
• نحن في لحظة تاريخية صعبة في العالم العربي، وما أتى من الثورات العربية والقضايا المختلفة التي نبعت من هذا المنعطف التاريخي الذي رافق عهدكم في معهد العالم العربي، وقد تحدثت عنه كفرصة تاريخية وتحد تاريخي.. كيف ترى دور المعهد في هذا المنعطف التاريخي الحرج؟
- لا يمكن أن يكون الرد ذهنيا أو نظريا فقط، نحن نعمل عن طريق الفعل والمعارض والملتقيات والمحاورات لجعل صورة العالم العربي صورة اقرب إلى الواقع الحقيقي لهذا العالم الثري ثقافياً، فقد رتبنا في الأشهر الماضية معرضا كبيرا حول الحج إلى مكة، وكانت فرصة كبيرة للآلاف من الجمهور لاكتشاف هذا الطقس الديني الروحاني الذي يفتح بوابة مهمة لحوار الثفافات، وقد عقدنا خلال هذا المعرض ندوة لثلاثة ممثلين للديانات السماوية الثلاث، هذا أيضاً مثال لدور المعهد.
منهج جديد للغة العربية
• لديك مشروع طموح في مجال تعليم ومناهج اللغة العربية.
- نعم، فقد أوكلت مهمة إدارة هذا المشروع إلى السيدة ندى يافي، وهي كانت سفيرة الجمهورية الفرنسية لدى دولة الكويت، وقد بدأنا في تطوير هذا العمل عبر مشروع تفاهم مع دولة قطر، ونتمنى أن تتاح لنا أيضاً فرصة المزيد من التعاون مع دولة الكويت في هذا السياق.
ويهدف هذا المشروع إلى إعطاء اللغة العربية مكانتها داخل فرنسا، حيث اننا نرى هنا أن توجه المؤسسات التعليمية المختلفة في فرنسا قد قلصت من أهمية تعليم اللغة العربية في مدارس ومعاهد الدولة والتعليم العام، لذلك نريد إعادة رونق اللغة العربية ليس فقط داخل معهد العالم العربي بل حتى في الضواحي والأحياء الشعبية، وكذلك عبر مركز معهد العالم العربي في مدينة نورد با دو كالييه.
ولدى المعهد مشاريع مختلفة في البرنامج التعليمي مع عدة مدارس داخل فرنسا لاكتشاف اللغة والثقافة العربية، ويمتد هذا النشاط حتى إلى هؤلاء الموجودين خارج الحياة العامة لأسباب مختلفة في حياتهم، في السجون مثلاً وأنا بنفسي زرت أحد هذه السجون للترويج لثراء اللغة والثقافة العربية.
• في تاريخ الكويت مثلاً وفي دول أخرى نرى أن تعليم اللغة العربية تحول تدريجياً من تعليم اللغة كمادة معرفية تحت وطأة المد الديني لجعل اللغة أداة امتداد لمشروع ديني سياسي. هل ترى في بحثكم حول إعادة النظر في مناهج اللغة العربية إمكانية لإعادة نظر لهذا الحراك التاريخي؟
- أعتقد أن ما تفضلت به فيه جانب من الحقيقة، هدفنا هو الترويج للغة العربية وتعليمها بشكلٍ منفصل عن أية نزعات أيديولوجية أو دينية أو طائفية. اللغة العربية في تاريخها وجذورها مصدر لديانات ومذاهب مختلفة في منطقة الشرق الأوسط، ومن هنا أهمية حيادية المعلم ونحن على تواصل مع وزارة التعليم هنا في فرنسا لضمان حياد المعلم الذي هو جوهر هذه المسألة.
من المهم جداً حماية تعليم اللغة العربية من تأثير أية جماعات لها مآرب أيديولوجية أو طائفية، نحن لا نستطيع أن نأخذ مكان ودور السلطات في الدول العربية بطبيعة الحال، وهذا ليس هدفنا لا في الكويت ولا في الدول الاخرى، ولكن إذا استطعنا المساعدة في انتزاع تعليم اللغة العربية من أولئك الذين لديهم مشاريع سياسية ودينية وطائفية ضيقة وإعادة اللغة العربية إلى سياقها الأصيل فهو شيء جيد للارتقاء بالمجال المعرفي والفكري.
التعليم والتاريخ
• تحدثت عن أهمية الثقافة وأهمية التعليم ولدي هنا سؤال يراودني: في مواجهة التطرف والعنف ورفض الآخر والفقر وكل التحديات في العالم العربي أمام طحن الشعوب عبر عقود من الحياة تحت نير أنظمة سلطوية قاتلة، هل بإمكان الفن والثقافة لوحدهما أن يأتيا بحلول؟ أم هل للتعليم أولوية؟ هل هناك ترتيب للأولويات: لمن الأولوية ومن عليه أن يأتي أولاً: الثقافة أم التعليم؟
- بالنسبة لي لا يوجد تراتبية في هذا الأمر، بل إن الاثنين يجب أن يأتيا أحدهما مع الآخر، وقد تحدثت في الدوحة قبل أسبوعين عن أهمية الفنون في التعليم لأن الفنون وسيلة لتوسيع الدائرة المعرفية عند الطفل عن طريق التجارب المادية الفعلية، إن كان عن طريق تعلم لغة جديدة أو الرياضيات، فهذه المعارف الأساسية يمكن تسهيل استيعاب الأطفال عن طريق الفنون في المناهج.
التعليم في كل بلدان العالم موضوع حوله الكثير من الجدل الذي يرتبط بتاريخ الدولة وحاضرها. وفي رأيي فإن المناهج التعليمية يجب أن تكون حيادية إلى أقصى حد، على الدول أن تحضر الطلبة عبر تعليم إنساني أولاً، يهتم بالإنسان أولاً وبالطبع عن طريق تاريخ هذه الدولة، الذي يهيئ الطلبة لأن يكونوا مواطنين كونيين. وسأعطيك مثالاً من تجربتي أنا كوزيرٍ للتربية في فرنسا، حيث ان التاريخ الفرنسي كان يُعلم من منظور استعماري كولونيالي، وقد اتخذت خلال عهدي خطواتٍ عدة لإعادة النظر بكيفية تعليم تاريخنا هنا في فرنسا، بحيث ان الاستعمار لم يعد يعلم كحقبة انتصار إيجابية في تاريخنا لأن الاستعمار كان من خلاله حلقات مؤلمة ودموية كثيرة، ومن المنصف أن يعلم الطالب وجهة النظر هذه أيضاً. كنا حين نعلم التاريخ الاستعماري ونتجاهل المعارك الدموية التي تمت على يد الجيش الفرنسي، وتحديداً في حرب الجزائر، وأنا نجحت في أن يعلم تاريخ هذه الحقبة بإنصاف، وبالطبع لم يكن الأمر سهلاً أبداً فالحكومات لا تريد أن ترى الوجه الحقيقي للتاريخ.
الهندسة الثقافية
• أنت تروج لفكرة «الهندسة الثقافية» فهل لك أن تحدثنا عنها؟
- نعم، الهندسة الثقافية فكرة طرحت من قبل كلود مولار وهو ناشط في مؤسسات ثقافية عدة في فرنسا، وهو مؤسس مركز جورج بومبيدو، كما أنه طور سياسة الفن التشكيلي الذي طبقته بصفتي وزيراً للثقافة في الثمانينات. وهو معنا في فريقنا كمستشار وهو يتمنى على معهد العالم العربي أن يساهم في تأسيس مؤسسة مستقلة تهتم بالاستشارات الثقافية والفنية لدول العالم العربي، وتتعاطى مع مشاريع دول العالم العربي في المجال الثقافي والفني والفكري بصفتها جهة استشارية مستقلة عن المعهد لتأسيس متاحف ومراكز ثقافية.
• وهو توجه متبع وملحوظ في العديد من دول الخليج العربي حالياً.
- نعم وفكرة تأسيس هذه الجهة الاستشارية وتطوير فكرة «الهندسة الثقافية» هي خلق جهة تستطيع الاستجابة لهذه الاحتياجات في حال طلبها، سواء أكانت هذه الطلبات صادرة عن حكومات أو مهرجانات أو جهات خاصة، وطبعاً لا نريد أن نطبق رؤيتنا على هذه الدول أو مؤسستها، بل هي مسألة وضع الاستشارات وخلق وسيلة لنقل المعرفة والخبرة.
الكويت دولة فريدة.. وتاريخها استثنائي
• تفتخر الكويت بحق بتاريخها الديموقراطي المجيد وبوجود دستورها المكتوب، من هذه الناحية هل تمثل دولة الكويت شريكاً مثالياً لمعهد العالم العربي؟
- بكل تأكيد، الكويت دولة فريدة ولديها الكثير من السمات الفريدة التي تميزها عن دول الخليج الأخرى، وقد اكتشفت هذا خلال زيارتي الكويت مؤخراً، فالكويت في بنيتها وبشعبها وبمفكريها لديها ثروة استثنائية، وقد شاهدت بأم عيني مقتنيات ثمينة لدى بعض العائلات والشخصيات الكويتية، الأمر الذي يدل على ذوق رفيع وهائل وحب استثنائي للاطلاع، وبشكل خاص مجموعة الصباح الأثرية، وقد تشرفت بلقاء معالي وزير الديوان الأميري الشيخ ناصر صباح الأحمد الصباح وحرمه المشرفة العامة على دار الآثار الإسلامية الشيخة حصة صباح السالم الصباح، وأقول بكل صراحة، وليس فقط بسبب الحاجة المادية لمعهد العالم العربي، ولكن نتمنى تعميق صلات الترابط والتواصل مع دولة الكويت لما تحمله هذه الدولة من تاريخ استثنائي ومشرف، كما نتمنى تطوير مشاريع في المجال العلمي أيضاً وتحديداً مع مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، ونحن نسعى الى أن نجعل من معهد العالم العربي مركزا فكريا للأبحاث والتطوير العلمي، وبصدد توقيع اتفاقيات تفاهم مع العديد من الجامعات ومراكز التعليم العالي في فرنسا لعمل أبحاث حول العالم العربي، ونسعى لخلق قطب فكري في معهد العالم العربي، وإن كانت هناك إمكانية تطوير هذا المشروع مع مؤسسة الكويت للتقدم العلمي فهذه إحدى أمنياتنا.
هاتف «صامت»
رغم انشغال هاتفه الدائم قبل الحوار وبعده، وتوقعه لمكالمات خلال اللقاء من مكتب رئيس الدولة، ومن وزارات الدولة وسفارات عدة، فإن الرجل تألق بأناقة وذوق رفيع، ووضع هاتفه على وضعية «صامت» منذ بدء جلسة الحوار، وهو أول الدروس التي نتمنى أن يتعلمها مسؤولونا من رجل الدولة جاك لانغ.
القبس
|
|
|
|
|
|