|
|
|
|

عن الحكامة اللغوية الرشيدة
أ. عبدالعزيز التويجري
احتفل العالم يوم 18 كانون الأول (ديسمبر) الجاري، باليوم العالمي للغة العربية. وهي مناسبة لمراجعة السياسات المعتمدة في العالم العربي، على وجه الخصوص، للنهوض باللغة العربية وحمايتها وإحلالها المكانة اللائقة بها بردّ الاعتبار إليها، في مجالات الحياة المختلفة، الأمر الذي يتطلب تطوير تعليمنا، وربط ذلك بتحديث التعليم في كل مراحله، وضمان جودته. لأن المسألة اللغوية في التعليم إحدى القضايا التي يهتم بها المختصون بالشأن التربوي لارتباطها بالتنمية الشاملة المستدامة، وبإقامة البناء الحضاري.
والعلاقة بين لغة التعليم والتنمية، لا ينبغي النظر إليها من الزاوية السياسية فحسب، أو من ناحية التنافس بين الثقافات، على نحو من الأنحاء، وإنما يتوجّب التعامل معها باعتبارها مسألةً تهمّ بناء الإنسان ونماء الأوطان، بحيث ترقى إلى مستوى القضايا الوطنية التي ينبغي الاتفاق عليها والعمل على تقويتها. وبحث المسألة اللغوية في التعليم حجرُ الزاوية في عملية إصلاح التعليم من منظور شامل، وبإرادة وطنية مستقلة، تنشد الخير للبلاد والعباد. فلا تطوير مجدياً ومتكاملاً للمنظومة التعليمية، إلا بإيلاء المسألة اللغوية أقصى الاهتمام على شتى المستويات. فبقدر ما يتم التوافق على الحلول العملية القابلة للتنفيذ للمشكلات المترتبة على تداعيات المسألة اللغوية، تتوَافَرُ الشروط اللازمة للنهوض بالعملية التعليمية بما يضمن الجودة من اعتماد اللغات الوطنية لغاتٍ للتعليم في كل المراحل. ووفق الدراسات التربوية الحديثة، فإن اعتماد اللغة الوطنية للتعليم، يُكسب العملية التعليمية برمتها، قوة ًوتماسكاً ومردودية في حياة المجتمعات، ويؤثر تأثيراً بالغ الإيجابية في التنمية الشاملة المستدامة.
فقد تبيّن من خلال دراسة تحليلية في تقرير التنمية البشرية في الدول العربية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن عدد براءات الاختراع بالنسبة إلى عدد السكان في الدول التي تدرّس العلومُ بلغاتها الوطنية، يزيد على عددها في الدول التي اعتمدت لغاتٍ أجنبية. كما أثبتت دراسات أخرى تفوّقَ الطلاب في الدول التي تدرّس العلوم بلغاتها، على نظرائهم في الدول التي تدرّسها بلغات أجنبية. ولنا في اليابان وكوريا الجنوبية والصين، خيرُ مثال على ذلك.
إن الاهتمام باللغة الوطنية وتعزيز مكانتها في حياة المجتمع أساسٌ ثابتٌ لترسيخ الهوية والارتباط بالإرث الثقافي والحضاري، وهذا لا يمنع بتاتاً تعلم اللغات الأجنبية وإتقانها والاستفادة منها في تقوية العلوم والمعارف والانفتاح على العالم. ولذلك فإن اهتمامنا بجودة التعليم العالي ينبغي أن يصدر عن اقتناعنا بأهمية استخدام العربية في مجالات التعليم المختلفة، وبأن بناء الإنسان هو الأساس في بناء الأوطان، وأن ذلك هو السبيل إلى امتلاك شروط القوة والقدرة والمناعة لمواجهة التحديات التي باتت تحاصر العالم الإسلامي، وتعرّض مصالحه العليا للخطر، إنْ لم تتضافر الجهودُ، وتتوحّد الصفوف، في معركة حضارية تقوم على العلم والمعرفة، لحماية الذات وللحفاظ على الكيان، ولتمكين الأمة الإسلامية من تحقيق مشروعها الحضاري في التقدم والرقيّ والازدهار، في ظلّ الأمن والسلام والتضامن الإسلامي.
وغنيّ عن القول إن مسألة ضمان الجودة لا تتعلق بالتعليم العالي فحسب كما قد يفهم للوهلة الأولى، بل هي تشمل التعليم على وجه الإجمال. ولغة التعليم هنا عنصرٌ شديدُ الحيوية لا يقل أهمية عن العناصر التي تتكوّن منها العملية التعليمية. ولذلك فإن الاهتمام ببحث المسألة اللغوية َ يعبّر عن وعيٍ رشيد بالأهمية القصوى التي تكتسيها هذه المسألة في جلّ دول العالم الإسلامي التي تعاني من ضعف وقصور في العملية التعليمية، ومن ضمور في مردودية التعليم وتأثيره في دعم التنمية الشاملة المستدامة.
فالعناية باللغة العربية، وتطوير إمكانتها، وتشريع القوانين الحامية لها، مقدّمات للنهوض بها في هذه المرحلة الصعبة التي تهدّد كيان الأمة الإسلامية. والحفاظ على العربية واجبٌ ومسؤولية ورسالة وضرورة تحتمها طبيعة المواجهة مع التحديات المختلفة التي تستهدف الهوية الوطنية من الأساس. والحفاظ على اللغة العربية يبدأ من المنطلق الأساس، وهو إيجاد الحل للمسألة اللغوية في التعليم، حتى لا تظلّ هذه المسألة معلّقة تثير الخلافات، وتعطّل العمليّة التعليميّة، وتفرّغها من محتواها. على أن يتم ذلك في أجواء من التوافق والشفافية، وبروح المواطنة الحقّ، وبتغليب المصلحة العليا للوطن. فاللغة عنصر بالغ التأثير من عناصر الكيانات الوطنية. وكلما حُوفظ على هذا العنصر بحمايته من الضعف والتلاشي والذوبان. كان ذلك أقرب إلى تقوية التماسك، وتعزيز الرسوخ للثوابت التي هي من أركان الهويّة في كل ثقافة من الثقافات الإنسانية، وليس فقط في الثقافة العربية الإسلاميّة.
والحقّ أن حماية اللغة سبيلُها التعليم، فإنِ استقام ونما وتفوّق وكانت الجودة طابعَه المميز، كانت اللغة في منأى عن الضعف والعجز والقصور. ولذلك فاعتماد الحكامة الرشيدة للتعليم هو الوسيلة المثلى للحفاظ على سلامة اللغة العربية وصمودها في وجه الأعاصير وحملات التشكيك والإضعاف، بل الإقصاء والإلغاء.
الحياة
|
|
|
|
|
|