|
|
|
|

أعداء العربية
أ.د. محمد الدعمي
استلمت بسرور بالغ، قبل بضعة اسابيع، رسالة من أحد الأساتذة العرب المرموقين يحيطني علماً فيها بتأسيس "المجلس الدولي للغة العربية" الذي سيتولى الأستاذ اعلاه رئاسته، ثم ليتخذ من بيروت مقراً له. أما اسباب سروري بهذا الخبر فتكمن في عدة جوانب، منها: (1) إهمال اللغة العربية في أغلب البلدان العربية، تدريساً ورعاية وتكريساً؛ (2) اتساع الفجوة بين الجمهور العربي ولغته الأم لأسباب عديدة؛ (3) اتساع الفجوة الفاصلة بيننا وبين الأمم الحية المثابرة على نشر لغاتها عبر الشعوب بوصفها أوانِ لثقافاتها ولشخصياتها القومية؛ (4) ضعف الاهتمام بفقه لغة تطبيقي قادر على تحرير اللغة العربية ونحوها من مكبلات القواعد المتحجرة التي تركها لنا شيوخ الكوفة والبصرة منذ العصر الوسيط، وإخفاق علماء اللغة العربية المحدثين اليوم في ابتكار طرق تدريس وتعليم تسمو بنفسها عما توارثناه من طرائق أكل الدهر عليها وشرب، درجة أن بعض تلاميذنا راحوا يظنون خاطئين أن تعلم لغة أجنبية، كالإنجليزية أو الفرنسية، أسهل من إتقان اللغة العربية دون هفوات اللحن والأخطاء الإملائية والنحوية التي راحت، للأسف، تحتل صفحات "الشعراء" الشباب الذين إعتادوا نشر "قصائدهم" عبر المواقع الإلكترونية ليقدموا للقاريء صدمات قوية بتبيان درجة تردي تعليم وتدريس لغة القرآن في العالم العربي، كأن يكتب "الشويعر" أو " الشويعرة" من هؤلاء كلمات من نوع "أيظاً" و "شكرن" و "إنكي"؛ بمعنى أيضا وشكرا وإنكِ، في مقطوعاتهم الشعرية.
للمرء أن يمر بالنقاط أعلاه وهو يتوسم ما سيضطلع به المجلس الدولي الجديد من مهام خطيرة وحساسة في هذا المضمار، وله كذلك أن يمارس أنشطة إبداء الرأي وتبادله حيال موضوع مهم كهذا. لذا أجد نفسي اليوم في مواجهة معضلة خطيرة تواجه اللغة العربية الفصحى بطرائق مثيرة للشك وللشبهات، خاصة بقدر تعلق الأمر بهؤلاء الصحفيين الذين يكتبون مقالاتهم وتعليقاتهم باللغة العربية ويستلمون إزاء ذلك المكافآت والمرتبات، ومع ذلك، فانهم وضعوا على عاتقهم مهمة تشويه اللغة العربية والحط من شأنها وشأن مستقبلها في عصر العولمة هذا حيث يذهب الآلاف من الطلاب الأوروبيين والأميركان والكنديين والاستراليين إلى معاهد تعلم اللغة العربية على سبيل الإفادة من معرفتها واستثمار ما يمكن أن تمنحه لهم من فرص استثمار وعمل وتجارة.
يلاحظ المرء هؤلاء الصحفيين الذين يأكلون مما تجود به لغة الضاد عليهم من خبز ومال، ولكنهم وبعد أن يأخذوا حصصهم من المكافآت يديرون ظهورهم للغة التي أتاحت لهم موارد الرزق والارتزاق هذه كي "يبصقوا" عليها وكأنهم يبصقون في الأيادي التي تطعمهم وتدفع بهم في آفاق الشهرة والشيوع.
المؤسف أن أغلب هؤلاء من "أعداء اللغة العربية" اللدودين إنما يجدون في الإساءة للعربية ولسمعتها ولدورها التنويري والمستقبلي أداة للتبختر والشهرة، قاصدين من توجيه الإساءات للعربية والحط من شأنها في عيون النشء والشبيبة، وبطريقة "شعوبية" مشحونة بالقذارة يراد منها عزوف هذه الأجيال الصاعدة من الاهتمام بالعربية، بل واحتقارها، باعتبارها لم تعد من لغات العصر الحية.
ربما أراد هؤلاء السفهاء وأغلبهم من المهاجرين في منافيهم بمدن العالم الغربي، نقول ربما أرادوا استعراض معارفهم باللغات الأوربية التي تعلموها هناك بعد عقود من التسكع وخدمة السواح العرب وغسل الصحون والخدمة بين مطاعم وأسواق لندن وحانات ومقاهي باريس وسواها من المدن الغربية. فات هؤلاء أن تعلم اللغة الأجنبية لا يفضي بالضرورة إلى احتقار اللغة الأم، خاصة عندما تخدم إناءً لتمرير أفكارهم الحاقدة على العرب والإسلام وعلى لغتهما.
قرأت مقالة من هذا النوع لواحد من شذاذ الآفاق وكأني أراه يقول أن اللغة العربية "لغة أثرية" ينبغي أن تموت وتحنط وأن موتها محقق، كما ماتت لغات أخرى كاللاتينية والعبرية؛ ثم أحيت الأخيرة بفضل اعتزاز أهلها بها، على عكس تبرؤ أهل العربية، من أمثال هؤلاء، من لغتهم وإناء ثقافتهم وتاريخهم وسيرة أمتهم سابقاً ولاحقاً.
وما دام تشويه اللغة العربية والدعوة إلى تركها بوصفها "تقليعة" قديمة لا تواكب العصر، فلم لا ندفنها بالمرة، ونحقن اللهجات المحلية المتفرعة من العربية أو الواقعة تحت وطأتها، نحواً وتركيبات ومفردات، بأمصال إعادة الحياة؟ هذا مايحاول آخرون أن يمررونه على القاريء العربي عبر الصفحات المطبوعة والأحرف المكتوبة، باعتبار أن في الإساءة إلى العربية نوع من "الوجاهة"، وجاهة "عقدة الخواجة" التي جعلت منهم أشبه بـ"المهرجين" ليس فقط من خلال طرائق طرح آرائهم من النوع أعلاه، بل وحتى من خلال طرائق لبسهم وظهورهم في الصور.
25/4/2011
صحيفة الوطن العُمانية
|
|
|
|
|
|