|
|
|
|

آليات الشيوع والانكماش اللغوي
أ.د. محمد الدعمي
تنبع الأهمية الكبرى للغة التي يستخدمها الإعلام من أنها، كما يطلق عليها بعض اللغويين، "لغة وسيطة"، خاصة في العالم العربي: هي وسيطة بمعنى أنها لغة ميسرة تقع في موقع وسطي من لغة العرب التي استخدمت مع الإسلام وقبل ظهوره ، كما أنها لغة عربية وسيطة بمعنى آخر، وهو أنها لغة مفهومة من قبل المواطنين العرب، بغض النظر عن تنوع لهجاتهم، من المحيط إلى الخليج. هذه اللغة المفهومة والميسرة الاستعمال هي اللغة العربية الحية، ليس بسبب وسطيتها فحسب، ولكن بسبب درجة "تداوليتها" وأعداد المواطنين الذين يستعملونها ويدركون معانيها، الأمر الذي يدعو المهتمين، خاصة في مجامع اللغة العربية، إلى الإهتمام الكبير بها من خلال العناية بها وتشذيبها من الدخيل والغلط.
في مقالة تحت عنوان "الشارع العربي: ينبض، يرى، يقرأ" ( الوطن الغراء، 4/8/2003) حاولت رصد دلالات الاستخدام المكثف والمبالغ به لتعبير "الشارع العربي" ، حيث لوحظ أن استخدامه بهذه الطريقة فيه الكثير من مجافاة الواقع والدقة، بديلاً عن تعبير "الرأي العام". وإذا كان البعض قد اعترض على هذا الرأي، راجعاً إلى أن التعبير موجود في الإعلام الغربي ، كمرجعية يقتدى بها، فإن هذا الرأي مردود لأننا لا ينبغي أن نقبل أو نعتمد كل ما يأتي من هذا الإعلام الذي يحتفظ بتقاليده الخاصة. علينا والحال هذه أن نطور لغة إعلامية عربية شائعة خاصة بالمهاد الثقافي العربي، معبرة عن "الذهنية العربية" التي أنجبها العصر الراهن (لاحظ ثمة إعتراض ضد تعبير الذهنية العربية بسبب تعميميته!).
يلاحظ المرء هذا التنوع المربك والمضطرب في لغة الإعلام على نحو صارخ في حالات "التأنيث" و"التذكير" الإعتباطية أو المنطوية على اللبس في العديد من الحالات ، ومنها تسميات الدول العربية. وقد تجلت هذه الحال على نحو صارح عندما قفز إسم العراق إلى رأس الأحداث (وبالمناسبة، هل للأحداث رأس؟) منذ عام 1990 حتى اليوم. هناك من الإعلاميين من يقول أن "العراق هي المسؤولة عن هذا وذاك"، وهناك فريق آخر يتكلم عن العراق بوصفه "المسؤول عن هذا وذاك"، وهكذا يضيع العراق لدى المستمعين العرب من مستهلكي المادة الإعلامية بين أن يكون مذكراً أو مؤنثاً. وتنطبق ذات الحال على بضعة دول أخرى ، بينما لا تقبل مصر المعطاء ، على سبيل المثال ، سوى التأنيث. ربما يحدث الإرباك بسبب النظام السياسي القائم في دولة معينة، فنقول الأردن الشقيق إتخذ موقفاً، أو الأردن إتخذت موقفاً، باعتبار أن الأردن مملكة، وهذه صفة مقدرة حتى دون ذكرها.
ومن ناحية ثانية، للمرء أن يستذكر العديد من الألفاظ الأعجمية التي زحفت على اللغة العربية ، مستعارة من لغات أجنبية، أوروبية في الغالب. وليست هذه الظاهرة معيبة،لأن جميع اللغات الحية في العالم تستدين وتدين الألفاظ، خاصة عندما يكتسب اللفظ صفة اصطلاحية، لا يمكن للفظ آخر أن يحل محله. لنلاحظ، على سبيل المثال لا الحصر، شيوع لفظ "الأنتلجنسيا" في الإعلام والثقافة العربية الشائعة. وهو لفظ إنجليزي مشتق من كلمة intelligence، بمعنى المعرفة أو الذكاء، حيث سكت كلمة إنتلجنسيا لتأشير "النخبة المثقفة" أو الأكثر استنارة معرفية في مجتمع ما. إن الذي يهم الباحث في هذا الموضوع هو التعمد المفرط باستخدام ما له مقابل أو بديل في اللغة العربية. لماذا، إذاً، نعمد إلى الاقتراض من اللغات الأوروبية؟ إنه سؤال كذلك يشمل تعابير من نوع "البروليتاريا"، وهو لفظ قد شاع في أدبيات الحركات السياسية اليسارية العربية، وكأنه يحمل "هالة" خاصة من المعاني، هالة لا تقوى أي من الألفاظ العربية على تحملها ونقل دلالاتها كاملة. هكذا أدخلت هذه الحركات، وبإيحاء من الحركات الماركسية والشيوعية، العديد من الألفاظ الأخرى من نوع "الشوفينية" و "البلشفية" و "السوفيتات"، من بين كلمات أخرى.
هذا الموضوع لا يبتعد كثيراً عن التوظيف الاعتباطي الملحوظ في الإعلام العربي لكلمات من نوع "مفكر"، حيث يتم استخدام هذااللفظ لـ"تكريم" شخص أو متحدث ما، بدون ضوابط ولا أسس. وقد أخذ هذا الوصف يشيع في وسائل الإعلام العربية عبر السنوات الأخيرة، حتى أنك لتشعر بأن بعض المتحدثين ربما يشترطون إطلاق هذا الوصف عليهم قبل حين! هذا اللفظ كذلك هو لفظ اعتباطي من ناحية المعنى اللغوي الدقيق، ذلك أن التفكير هو صفة كل إنسان حي: فهو لا يتوقف، بغض النظر عن مستوى الاستنارة والعلم التي يقبع عليها الإنسان المعني: حتى المجنون يفكر، إذاً هو مفكر! "أنا أفكر، إذاً أنا موجود". ربما كان إصرار البعض على إطلاق صفة "مفكر" عليه مدفوع بالتشبث بصفة "فيلسوف"، بغض النظر عن القدرة على التفلسف وإنتاج الأفكار والتحليلات المبتكرة.
وللمرء أن يلاحظ مخاطر التمادي في محاكاة وسائل الإعلام الغربية نظراً لأنها تتبلور مضحكة أحياناً في إعلامنا. وكمثال على ذلك، يمكن استذكار إعتماد بعض الفضائيات العربية وصف من نوع "كبير مراسلي" الفضائية الفلانية أو الفلتانية. تأتي بعد اسم هذا "الكبير". إن السؤال التلقائي الذي يتبادر إلى ذهن المتابع، هو: هل أن الإدعاء بأن فلان هو "كبير مراسلي الفضائية"، بأن بقية مراسلي هذه الفضائية "صغار"؟ وإذا كان الأمر كذلك، لماذا لا نصف أي واحد من بقية المراسلين بأنه "صغير مراسلي" الفضائية المقصودة؟
هذه الظاهرة "المستعارة" من الـCNN كما يبدو لا تبتعد كثيراً عما يشيع في إعلامنا من تصنيفات غريبة كذلك، خاصة بقدر تعلق الأمر بـ"التجييل"، أي تقسيم أو تصنيف الأدباء والفنانين والسياسيين على أساس افتراضي، غير واقعي، هو الجيل: فيقول هذا المذيع أو الصحفي أن فلاناً هو ستيني أو سبعيني، أو أن الرسام المعني "ينتمي" إلى جيل الثمانينيات وأن المخرج الفلاني ينتمي إلى جيل التسعينيات. هذا تصنيف اعتباطي كذلك، ذلك أنه مربك بقدر تعلق الأمر بالميل إلى العمومية والتعميم: فهل أن المقصود هو أن هذا الشخص قد ولد في إحدى سنوات هذا العقد، أم أن المقصود أنه قد قدم أفضل أعماله خلال أعوامه؟
هذه لا تزيد عن بضعة "شذرات" مما يشيع في الإعلام العربي من تعابير وألفاظ تفتقر إلى الدقة، الأمر الذي يتطلب المزيد من الدراسة والبحث الدقيق لتحديدها ومحاولة تصويبها.
15/5/2006
صحيفة الوطن العُمانية
|
|
|
|
|
|