للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  دعوة للمشاركة والحضور           المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

واسِطةُ عِقْدِنا الحَضارِيّ ...؟!؟

أ.د. ياسر الملاح

لِكلِ أمّةٍ في التاريخِ المُعاصِرِ والتاريخِ المَوْروثِ عِقدٌ حَضاريّ، تحافظ عليه، وتربي أبْناءها عليه، ويكون مَرْكزَ التربيةِ الثقافيةِ الشعبيةِ، ومركزَ الثقافةِ الرسميةِ في المَعاهدِ والإعْلامِ، لأنه يُشكلُ شخْصِيتها الوَطنيّة الِاجتماعية. وقد يَعْتري هذا العِقدَ بعضُ الغبارِ والأتْرِبةِ عندما تُكسفُ شمسُ الأمةِ لعواملَ سياسيةٍ أو اقتصاديةٍ أو اجتماعيةٍ أو أخلاقيةٍ أو استعماريةٍ، غيرَ أنه لا يُمْكنُ أنْ يُفرَّط فيه لأنّ ضَياعَه هو ضَياعُها وفقدَه هو فقدُها والتنازلَ عنْ بعضِ حباتِه يعني انفراطه ومِنْ ثَمّ انْدِثارُه.
ولا تَخْتلفُ أمتُنا عنْ غيرِها من الأممِ في خُضوعِها لهذا الناموسِ الكونيّ، فلنا عِقدُنا الحَضاريُّ الذي يَعْرفُه كثيرٌ مِنَ الناسِ في عصرِنا بفضلِ اتساعِ مَجالِ الِاتصالاتِ وتقارب الكونِ رُغْمَ ضخامتِه، فأصبحَ الكونُ كله قرْية كَوْنيّة كما يُعبرُ بعضُ الناسِ. والعِقدُ العَرَبيّ، كما هو ذائعٌ ومشهورٌ، يتألفُ منْ عَدَدٍ من الجَواهرِ المُشكِّلةِ لكيانِه، فمِنْ هذه الجواهرِ على الجانب الأولِ من العِقد: اللؤلؤة والفريدة والزَّبَرْجَدة والجُمانة والمَرْجانة واليَاقوتة والجَوْهرة والزُّمُرُّدَة والدُّرَّة واليَتيمة والعَسْجَدة والمُجَنَّبَة، وعلى الجانب الآخرِ منه تقعُ هذه الحباتُ أنفسُها مُضافا إلى كلِ حَبّةٍ كلِمَة الثانية، كقوْلِنا: اللؤلؤة الثانية، والفريدة الثانية، وهكذا، غيرَ أنّ أهمَّ هذهِ الجواهرِ جَميعاً واسِطة العِقدِ التي تُسَميها العربُ الواسِطة. فما هي مَنْظومة عِقدِنا الحَضاريّ نحن، العربَ والمُسْلمين؟ إنّها مَنْظومة المُثلِ العُليا التي تَصْبغ المَرْءَ بالصِّبْغةِ التي تجْعَله عَرَبيّا، فيكونُ كذلك، وواسِطة العِقدِ في هذهِ المَنْظومَةِ اللغة العربية، لسانُ القرْآنِ المُبينِ.
ولا يَعْنيني في هذهِ المَقالةِ المُخْتصرةِ تَتَبّعُ حَباتِ العِقدِ الحَضاريّ لِأمتِنا والإسهابُ في وَصْفِها وتحليلُ أوْجُهِ الجَمالِ فيها، غيرَ أنّ ما يَعْنيني منها حَبّة واحِدَة هي أجْمَلها أو أنفسُها أو أجْودُها كما وَرَدَ في لسانِ العَرَب لِابْنِ منظورٍ، إنها واسِطة هذا العقدِ الخالدِ خُلودَ هذهِ الأمةِ وخلودَ حضارتِها. ولا أبالغ، في حَشدِ سِماتِ هذهِ الجوهرةِ، عندما أقولُ: إنها روحُ الأمةِ وماءُ حَياتِها والأمينُ على صِيانةِ صَرْحِها الثقافيِّ والفكريِّ، وإذا انفرطتْ انفرَط عِقدُنا كله، وتَبَعْثرتْ حَباته، فلمْ يَعُدِ العِقدُ عِقداً، ولم يَعُدِ الجمالُ جَمالا، لأنها لسانُ كلامِ اللهِ، وحسبُنا في هذا دَليلا وبُرْهاناً ، وحسبُنا في هذا عُلوا ورُقِيّا!!!
إنّ ما أسطرُه الآنَ لبِنَة منْ لبناتِ البنْيةِ الفكريةِ الأساسيّةِ لِكلِّ فَرْدٍ يُعْلنُ انْتِماءَهُ إلى هذهِ الأمَّةِ مُنذ بَزغتْ شمسُها المُنيرة حتى هذهِ الأيامِ التي يَغلِبُ عليها الكسوفُ، فإذا بقيتْ هذهِ اللبنة مُحْتفظة بمُقوِّماتِ الحَياةِ والقوةِ الكامِنةِ في حَبَّةِ البذارِ فإنَّ احتمالاتِ النمُوِّ والعُلوِّ والِارْتفاع قائمَة، لا مَحالة، وقادِمَة بإذنِ اللهِ. ويَكفي مِنْ هذا كلِه الإيمانُ بأنّ هذه اللغة هي واسِطة عِقدِنا الحَضاريِّ، والمُحافظة على هذا الإيمانِ، إلى أنْ تَتَهَيَّأ الظروفُ المُواتِيَة لإعادَةِ بناءِ هذا العِقدِ وترْميمِهِ ونفضِ الغُبارِ المُوحي باسْوِدادِه.
إنّ مِنْ سُننِ اللهِ في هذهِ الحياةِ مُداوَلة الأيامِ، فالدَّهْرُ يَوْمانِ : يَوْمٌ لك، ويَوْمٌ عَليْك، فإنْ كانَ لكَ فاخْضعْ لِلهِ، فلا تَبْطرْ ولا تَسْتكبرْ ولا تَتَمَرَّدْ على مَنهجِ اللهِ، بلْ فاحْمَدْه حَمْداً كثيراً، واشكرْهُ شكراً جَزيلا، وإنْ كانَ عَليْك فلا تَجْزع واصْبرْ صَبْرا جميلا، واحْتسبْ للهِ، وتذكرْ أنّ للنصرِ شروطا لامَناصَ منْ تَحققِهِ إلا بها، وما النَّصْرُ إلا مِنْ عِنْدِ اللهِ، وابْتَغ العِزَّة فيما أعْطاك اللهُ مِنْ نِعَم ومُقوماتٍ، واحْفظ عِقدَك الحَضاريَّ في قلبك وسِرِّكَ، وإيّاك والغفلة لحْظة واحِدَة عن ترْبيةِ نفسِك وأبنائِك على َحبَّاتِه جَميعا، وبخاصّةٍ واسطته، لغتنا الشريفة. فاللغة العربية اليومَ، على الرَّغْمِ من حَيَوِيَّتِها المُتواضعةِ على أيْدي نفر قليلٍ من أبنائها، تَعيشُ أزمَة كبيرة في بيئاتٍ مُتعددةٍ بحيث أصْبَحْنا نَخشى على مُسْتقبلِها: فهُناك أزمة في البيتِ الذي هو المَحْضنُ الأساسيّ الذي يُكْسِبُ اللغة الأمَّ، وأزمة في الحارةِ المعززة للغةِ الأمِ، وأزمة في المدرسةِ، وأزمة في الجامعةِ، وأزمة في المعبدِ، وأزمة في الإعلامِ وأدواتِه من تلفازٍ وإذاعةٍ ومسرحٍ وصحفٍ وغيرِها من وسائلَ كثيرةٍ. هذا هو الابتلاءُ الكبيرُ الذي يَمتحنُ بهِ اللهُ مَعْدِنَنا، فما الذي علينا فِعْله إزاء هذا الواقعِ المُرِّ؟ إنّ علينا أنْ نؤمنَ بعظمَةَ لغتِنا وجمالِها ونُربيَ أبناءَنا على هذا، وعلينا ثانيا أنْ نعملَ على ضمانِ حَياتِها فينا ما استطعْنا إلى هذا سَبيلا، فالإيمانُ والعملُ مُقترنينِ مُتلازِمَيْنِ هما السبيلُ إلى النجاحِ والفلاحِ، ولا يَصْلحُ أحدُهما بغيرِ الآخَرِ في هذهِ الحَياةِ التي نَحْياها. وإنّ لنا فيما فعَله الآخرون لعِبْرة، فاليهودُ أشرفتْ لغتُهم على الموتِ بَعْدَ أنِ احْتضرتْ زمنا طويلا، وها هِي الآنَ تعودُ إلى الحَياةِ مِنْ جَديدٍ، وَهُمْ، مَنْ هُمْ في هذهِ الدُّنيا؟ إنهمْ نفرٌ قليلٌ لا يَملِك مِنَ الرَّصيدِ الحضاريِّ ما هو مُتاحٌ لنا، ولا مِنَ الإمْكاناتِ الماديةِ والبشريةِ ما هو مُتاحٌ لنا كذلك، والفرقُ بَيْننا وبَيْنهم أنّهُمْ آمنوا بفكرةٍ وعَمِلوا لإنْجاحِها، وفي سِنةٍ من الزّمانِ وأهْلِهِ نَجَحوا!؟!
لَيْسَ مِنَ الحِكمَةِ أبدا أنْ يَنْتهيَ بنا ما نحن فيه مِنْ هوانٍ وعَجْزٍ إلى الإحْباطِ وجَلدِ الذاتِ، فهذهِ سُنّة نافِذة في هذا الكوْنِ، يقولُ رَبُّنا في كِتابهِ الكريمِ: ( الذي خَلقَ المَوْتَ وَالحَيَاة لِيَبْلوَكمْ أيُّكمْ أحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفورُ) المُلك2، فامْتحانُنا الصَّعْبُ هذهِ الأيامَ أنّ لغتنا لمْ يَتحققْ لها مَجْدُها الذي نتطلعُ إليه هذه الأيام، حتى في عُقرِ دارِها، فهذا ابْتلاءٌ كبيرٌ لأنّ اللغة للأمّةِ واسِطة عِقدِها الحَضاريِّ، فإذا كانتْ واسِطة العِقدِ لا تتسِمُ بالصحةِ والجَمالِ والحيويةِ، فمِنْ أين تَأتي الجَاذبيَّة والحَيَوِيَّة والجَمالُ لِلعِقدِ كُلِه؟!؟ وَلعَلّ فِكْرَة الِابْتلاءِ مَعْلمٌ أساسيٌّ مِنْ مَعالمِ ثقافتِنا وَترْبيتِنا، وما جاءتْ في نصّ قرآنيٍّ أوْ أثريّ إلا كانتْ بواطنُها تَحُث على الإصْلاحِ والتحَدِّي للخَللِ الجاثمِ على صُدورِ المُخاطبينَ ليكسَبوا جَوْلة الصِّراع في الدّنْيا والأجْرَ العظيمَ في الآخِرَةِ.
وحتى لا ينتهيَ بنا الأمرُ إلى التنظيرِ فقط، فهذا نِداءٌ حارٌّ واسْتِصْراخ لِكلِ فرْدٍ مُؤمنٍ بحَقِ هذهِ الأمّةِ في أنْ تعودَ لها هَيْبتها، ومَكانتها تحْتَ الشمسِ، بأنْ هيّا بنا نَعْملُ لإعزازِ العربيةِ في أنفسِنا أوّلا، وفي حَياتِنا ثانيا، ولنرْصُدْ ما يَحْصُلُ في مُقبلِ الأيّامِ. وهذه خُطة بَسيطة فلنُؤمِن أولا بأنّ لغتنا مُهمّة لنا، ولمُسْتقبلِنا، ولِوُجودِنا، وللإنْسانيةِ، ثمَّ فلنصدِّقْ ما وَقرَ في قلوبنا بالعَمَلِ، وأولُ آلاتِ العَمَلِ لإحْياءِ اللغةِ أنِ: اقْرَأ، وليَكنْ أولَ مَقروءٍ عندك كتابُ اللهِ، ثمَّ ما شاء اللهُ لك أنْ تقرأ بعده من أدبٍ جَميلٍ، والسَّمْعُ يَدْخلُ في باب القِراءةِ، ويُطلِقُ عليه التربويون: قراءة الاسْتماعِ، ولا يفوتَنّك أنّ القِراءة النافعَة هي التي تكونُ على أرْبَع مَراحلَ مُتعانقةٍ: القراءة ثم الحفظ ثم التدَبُّرُ ثم التطبيقُ، لأنّ المَقروءَ عِلمٌ، والعِلمُ لا بُد أنْ يُنْتفعَ به، لأنّ العِلمَ الذي لا يَنْتفِعُ به المرءُ في حياتِهِ قدْ أمِرْنا أنْ نستعيذ مِنه، فقيل: اللهم إنّا نَعُوذ بك مِنْ عِلمٍ لا يَنْفعُ.
ولنخصّصْ الآنَ في هذا النداءِ فنَتوَجَّه إلى الأسْرَةِ أولا، ثمَّ إلى المَعْهدِ ثانيا، ثمَّ إلى الحُكمِ المَحَليِّ ثالثا، ثم إلى الدَّوْلةِ أخيرا، فنقولُ: إنّ لغتنا العَربيّة خَدَمَتْنا كثيرا، وأوْجدَتْ لنا كِيانا مَعْلوما بعدَ أنْ كُنّا لا كِيان لنا، وحَفِظتْ لنا صَرْحا ثقافيّا قلَّ أنْ يَكون له نَظيرٌ على وجْهِ الأرْضِ، أفليْسَ مِنْ واجب الوَفاءِ أنْ نَبَرّها ونُحْسِن إليها الآنَ وَهِيَ مُحاطة بقطيعٍ من الأعْداءِ الذين يَعملون على وَأدِها وهي حَيّة تسْعى؟!؟ إذا كان ذلك كذلك، فكيفَ يقومُ كلٌ منا بواجبهِ تجاهَ واسِطةِ عِقدِنا الحَضاريّ؟
ففي البيتِ العَرَبيِّ تُبْنى القاعِدة اللغويَّة الأساسِيَّة لِلإنْسانِ العَربيِّ، وعَليْهِ فإنَّ أوْجَبَ الواجب على الوالدَيْنِ أنْ يُكْسِبا أوْلادَهُما اللغة التي ستكونُ لسانَ انتمائِهِ الحَضاريِّ، وهي العربية أوَّلا، وليْسَ لدينا مانِعٌ أنْ يَتعلمَ لغاتٍ أخْرى يُعززُ بها لغته وانْتِماءَهُ الحَضاريَّ. ولا بُدَّ لي منْ تَوْضيح مَسْألةٍ مُهمّةٍ في هذا السِّياقِ، وهي أنني لا أرغبُ في تأجيج الصّراع بَيْن العامِّيَّةِ والفصْحى، بلْ إنني أدْعو دائما إلى الصّلحِ بَيْنهما، لأنّهما تَوْأمانِ، غيرَ أنّ لِكلِ تَوْأمٍ منهما وظيفة تَخْتلفُ عن وظيفة الآخرِ، فالعامِّيَّة للعامَّةِ والحياةِ غيرِ الرسْمِيَّةِ، والفصْحى للخاصَّةِ والحياةِ الأدبيةِ والرسْمِيّةِ، فإذا ألبَسْنا العامية وظيفة الفُصْحى وَقعَ الخللُ، وإذا كان العكسُ وقعَ الخللُ كذلك، فدرْسُ العِلمِ في المَدْرَسةِ أوِ الجامِعَةِ أوِ المَسْجدِ لا يَكونُ إلا بالفصْحى، فإذا وظفتَ العاميّة له مَسَخْتَه وأضَعْتَ بَهاءَهُ، وإذا ابْتعْتَ أمْرا مِنَ السُّوقِ فوظفتَ له الفصْحى أثقلتَ على سامِعيك، فظنوكَ جنّيّا مِنْ كوْكبٍ آخرَ، وإذا أكرمَك اللهُ بفضلِه، ونجَوْتَ من السُّخريةِ والتعَجُّب، كنتَ مَحْظوظا بأناسٍ يُحبون الفصْحى، ويَطربونَ لها، لأنّها واسِطة العِقدِ الغائبَة عَن أسْماعِنا. فأنا لا أدْعو إلى أنْ يُمارِسَ الوَلدُ أو البنتُ الفصْحى في حياتِه كلِها، لأنّ هذا غيرُ مُمْكنٍ، ويَتناقضُ مَعَ نَواميسِ اللغاتِ بعامّةٍ، فالناموسُ اللغويُّ يَفرضُ على كلِ لغةٍ مُتَكَلّمَةٍ أنْ يَكون لها مُسْتويانِ من المُمارسةِ: العامية والفصحى. غيرَ أنّ أحَدَهم  إذا فعَل ذلك، فاتخذ الفصْحى لِسانا دائِما له في الأحْوالِ جَميعا، حُبّا وامْتيازا، فلا بأسَ في هذا. إنّ ما أدْعو إليه هو أنْ نَزْرَع في قلوب أبنائِنا حُبَّ هذه اللغةِ الشريفةِ، والاعتزازَ بها، مُنذ نعُومَةِ أظفارِهِمْ، وذلك برَبْطِهم رَبْطا عَمَليّا مع رُموزِ هذه اللغةِ، منْ نُصُوصٍ وعُلماءَ وشُعَراءَ وقادةِ ومُفكرين، حتى يُصبحَ الرصيدَ الثقافيَّ لأبنائِنا من هذا العِقدِ الحَضاريِّ الذي يَطبَعُنا بالطابَع العَرَبيِّ المَبْنِيِّ على الانْتِماءِ الأصيلِ لشخصيةِ أمتِنا.
ولعلَّ مِن أوْجَب الواجب كذلك للمَعْهدِ مِنْ حَضانةٍ ورَوْضةٍ ومَدْرسةٍ وكليّةٍ وجامِعَةٍ تعْزيزَ ما زرَعَه الوالدانِ في قلوب الأبْناءِ مِن قِيَمٍ ومُثلٍ عُليا يَتضَمَّنها عِقدُنا الحضاريّ وواسطته الجميلة لغتنا العربية. وكذلك الأمرُ بالنسبةِ للحُكمِ المَحليِّ مِن مَجالسَ بَلديّةٍ وقرَوِيَّةٍ، فلا بُد أنْ يَكون في أذهانِهم اهتمامٌ وعِنايَة خاصَّة بالمَسْألةِ اللغويةِ، فعندما تُعَلقُ لافِتة على أيِّ شارعٍ أو حانوتٍ لامَناصَ مِن وَضْعِ هذهِ المَسْألةِ في الذهنِ بحَيْث تكونُ هذه اللافتاتُ مُصَفاة مِنَ الأخطاءِ اللغويةِ التركيبيةِ والكِتابيةِ، ولا بُدّ أنْ تكون بالعربيةِ الرَّصينةِ أولا، لأنّ هذا ما يَعْكسُ شخصيّة الأمّةِ وشخصيّة عِقدِنا الحَضاريّ ومُثلِهِ العُليا، أمّا أنْ تكون اللافتاتُ بالحَرْفِ العَرَبِيِّ، والكلماتُ مُسْتعارَةٌ من اللغاتِ الأجْنبيةِ، كقوْلِهم:(نوفوتيه الوايت ليدي) أوْ (أكسلها) دِعاية لشراب غازيٍّ كتِبَ عَليْه بالإنجليزية XL، فهذا عَبَث وإفسادٌ لِمُناخ الذوقِ اللغويِّ، كما يَفعلُ الكثيرون في بلادِنا، فهذا لا بُدّ أنْ يُوقفَ بالصُّورَةِ والأسْلوب المُناسبيْنِ، لأنه يُفسِدُ أذواق أبنائِنا ويُفسدُ تَنْمِيَتَهم اللغوِيّة المُسْتقيمة.
أما واجبُ الدوْلةِ، وبخاصةٍ وِزارتا التربيةِ والتعليمِ والإعْلامِ، فكبيرٌ جدا، وخطيرٌ جدا في هذه المسألةِ اللغويةِ، لأنّ الدّوْلة هي المتعاقدة مع الشعب على حِمايتِه وتَحْقيقِ مَصالِحِهِ التربويةِ والثقافيةِ، وعلى صِيانةِ عِقدِه الحَضاريِّ ومُثلِهِ العُليا، حتى يَطمَئِنَّ الناسُ على صِحَّةِ مَسارِ تربيةِ أبنائِهم، وعلى دَيْمومَةِ وجُودِهم الثقافيِّ والتربويِّ والأخلاقيِّ، لأنّ مَنظومة المُثلِ المُشكلةِ لشخْصِيّةِ الإنسانِ مُتماسكة ومُتداخلة، ويَجْمَعُها جميعا البُعدُ اللغويُّ. وليس الأمرُ، في المَسْألةِ اللغوِيّةِ، مُقتصِرا على مَوْضوع اكتِساب اللغةِ، وإتقانِ اسْتِعْمالِ هذهِ الآلةِ المُهمَّةِ، على الرُّغْمِ من أهميّة هذا المَوْضوع، ولكن الأمرَ يَتعدّى هذا إلى مَوْضوع التّحْصيلِ العِلمِيِّ في مُختلِفِ المَيادينِ، فلسْتُ أدري إذا لمْ يَكنِ الفرْدُ مُتقِنا للغةِ فكيْفَ يَتسَنَّى له فهْمُ مُخْتلِفِ ألوانِ المَعْرِفةِ وهي مَكتوبَة بها!؟! إنّ مُسْتوى التحْصيلِ المَعْرِفِيِّ مُرْتبط ارْتِباطا طرْدِيّا بمُسْتوى التّمَكنِ اللغويِّ عندَ طالب العِلمِ في أيِّ مُسْتوى، ولهذا تَطلبُ الجامِعاتُ الأجْنبيّة من الطلبةِ الذين يَلتحِقون بها مِنْ غيرِ أبناءِ البلدِ أنْ يُمْضوا سَنة لغةٍ، كما يُسَمُّونها، لِيكونوا مُؤهلين لِفهْمِ ما يَتحَدَّث عنه المُحاضرُ أو الأسْتاذ.
أما بعدُ، فإنّ تعاونَ هذه البيئاتِ جَميعا، وهِيَ البيتُ والمعهدُ والحكمُ المحليُّ والدَّوْلة، على مَسارٍ تربويٍّ وثقافيٍّ يُشكلُ الأساسَ لبناءِ جيلٍ مُمْتازٍ. ولا شك في أنّ أحَدَ مَعالِمِ الِامْتِيازِ للإنسانِ المُعاصرِ يَتمَثلُ في الِاكتِساب اللغوِيِّ الناجحِ حتى يَتمَكن المَرْءُ من الوَفاءِ بمُتطلباتِ التواصلِ في الحياةِ المَدَنِيَّةِ المُعَقدةِ. وإنّ من الضروريّ للإنسانِ العربيِّ المُعاصرِ أنْ يُسَلحَ نفسَه بلغتهِ العربيةِ حتى يَحْفظ وجودَه واستمرارَ أجْيالِهِ وشخْصِيّته الحَضارِيّة ومَنظومَة مُثلِهِ العُليا التي تتمَثلُ جميعا في عِقدِه الحَضاريِّ وواسِطتِه النفيسةِ لغتنا الجميلة.                         
                  


التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية