للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

اللغة الشاعرة - 7

د. محمد سعيد حسب النبي

اللغة العربية لغة المجاز
يشير العقاد في كتابه اللغة الشاعرة أن المجاز هو الأداة الكبرى من أدوات التعبير الشعري، لأنه تشبيهات وأخيلة وصور مستعارة وإشارات ترمز إلى الحقيقة المجردة بالأشكال المحسوسة، وهذه هي العبارة الشعرية في جوهرها الأصيل.
ولا تسمى اللغة العربية –كما يقول العقاد- بلغة المجاز لكثرة التعبيرات المجازية فيها، لأن هذه التعبيرات قد تكثر في لغات عديدة من لغات الحضارة. وإنما تسمى اللغة العربية بلغة المجاز لأنها تجاوزت بتعبيرات المجاز حدود الصور المحسوسة إلى حدود المعاني المجردة. فيستمع العربي إلى التشبيه فلا يشغل ذهنه بأشكاله إلا ريثما ينتقل منها إلى المقصود من معناه. فالقمر عنده بهاء، والزهرة نضارة، والغصن اعتدال ورشاقة، والطود وقار وسكينة، والرسوم الهيروغليفية عنده بهذه المثابة قد انتقلت إلى حروف تتألف منها كلمات.
نعم، إن المجاز قد انتقل في اللغة العربية من الكتابة العيروغليفية إلى الكتابة بالحروف الأبجدية، وهذا هو المثال الصالح لتقريب المعنى الذي نريده حين نقول إن المجاز العربي يصور لنا المعاني المجردة –مباشرة- من وراء تصوير الأشباه والأشكال.
كان الكاتب القديم في عهود الكتابة الأولى قبل اختراع الأبجدية، يريد أن يكتب كلمة (يمشي) فيرسم على الصخر أوالورق صورة إنسان يمشي على قدميه، ويبدو عليه أنه يتحرك في مشيته، ثم تطورت الكتابة فانتقلت الصورة إلى مقطع صوتي يؤخذ من الصورة ويستخدم في الدلالة على الأصوات التي تشبهه، ثم انتقلت من المقطع الصوتي إلى حرف واحد تجتمع منه حروف الأبجدية وهذه هي الكتابة في مرحلتها الأخيرة.
فالباء هي الحرف الأول من كلمة (بيت) التي كانت ترسم على شكل بيت للدلالة على المبيت أوالمساء، ثم تولدت منها مقطع بحروفه الثلاثة، ثم تولد من المقطع حرف واحد هو الذي بقى من الصورة كلها، وهي الذي نسميه الآن حرف (الباء) ونسمعه فلا يخطر لنا رسم البيت على بال، لأننا تخطينا بالكتابة عهد الصورة الهيروغليفية وعهد المقطع إلى عهد الحروف الأبجدية.
مثل هذا التطور يتكرر في الصور المجازية التي ترد على ألسنة المتكلمين باللغة العربية، فلا يلبث التشبيه المجازي أن يؤدي معناه المقصود بغير وساطة الشكل المستعار، ولا يشتغل الذهن بالصورة المحسوسة لانتقاله منها على الأثر إلى الوصف الذي يقارنها، كما تقدم في معنى القمر والزهرة والغصن والطود، وكما نرى في مئات الكلمات التي تشتمل عليها اللغة العربية ولا تزال معانيها المجازية مقترنة بمعانيها الحقيقية جنباً إلى جنب، وفي استعمال كل يوم على كل لسان، وهذا الذي ألمح إليه العقاد في مبحث الحقيقة والمجاز في اللغة العربية كما نتكلمها اليوم، وكما كان أبناؤها الأسبقون يتكلمون بها في جميع العهود.
ففي هذه اللغة الشاعرة توجد كلمات كثيرة بقي لها معناها الحقيقي مع شيوع معناها المجازي على الألسنة، حتى ليقع اللبس في أيهما السابق وأيهما اللاحق في الاستعمال.
ونبدأ بكلمتي الحقيقة والمجاز، وهما أقرب الشواهد على اقتران المعاني الأصيلة والمعاني المنقولة في تلك الكلمات.
فالحقيقة فكرة مجردة، قد تبلغ الغاية في تجردها من المحسوسات، ولكن مادة الكلمة تستخدم للدلالة على ما يلمس باليد ويقع تحت النظر، فيقال (انحقت) عقدة الحبل أي انشدت وحق بلغ حافة الطريق.
والمجاز من جاز المكان أو جاز به غير معترض، ويقال هذا جائز عقلاً أي غير ممتنع ولا اعتراض عليه، وهذه كلمة مجازية أي يمكن أن تنطلق في هذا المعنى، أو أنها تحتمله مع معناها الأصيل.
وكلمات: انطلق وامتنع واعترض واحتمل أمثلة أخرى لاقتران المعنى الأصيل والمعنى المنقول، فكلها تستخدم للمحسوسات وغير المحسوسات. ويلاحظ هذا الاقتران بين المعاني المجردة والمعاني المحسوسة في كثير من المسائل الفكرية والصفات الخلقية التي تجتمع في مادة واحدة: كالواجب والفريضة والفضيلة والحكمة والعقل والعظمة والأنفة والعزة والنبل والشرف والرحمة والجمال والنشر والعلم والشك والثقة والذكاء إلى كثير من أشباهها.
فيقال وجب بمعنى ثبت، والوجبة بمعنى الأكلة في وقت ثابت، والواجب بمعنى اللازم أوالعرف أوالمنطق. ويقال (الفريضة) عن الخشبة التي فرضت أوحزت وبينت فيها العلامات، ويقال (الفرائض) عن الحدود المبينة الواضحة.
والفضيلة كل بقية أوزيادة، والفضيلة هي الخلق الذي يدل على فضل أوزيادة عند صاحبه، والفاضل هو الذي عنده زيادة أو يتفضل بعطائه على غيره. والحكمة مادة تجمع بين الدلالة على الرشد والدلالة على الحديدة التي توضع في اللجام تمنع الفرس أن ينطلق غاية الانطلاق، وهي (الحكمة).
والعقل كالحكمة والحكمة فيما يشبه هذين الغرضين، ويقال تعقل الأمر أي تدبره، وإدراكه، وتأتي (تدبره) أيضاً بمعنى مشى في أعقابه، وأدركه بمعنى لحقه ووصل إليه.
أما العظمة فهي صفة العظيم، والعظيم هو الكبير العظام أوالكبير الأخلاق والمزايا.
والأنفة هي حركة الأنف في حالة الترفع والاشمئزاز، وهي حركة تشبه الإشاحة بالأنف أو ضمه لاتقاء رائحة تعاف.
والعزة يوصف بها المكان المنيع والرجل المنيع، فالعزيز في الحالتين غير السهل المباح.
والنبل ما ارتفع من مكان أو شأن، وكذلك الشرف، هما وصفان للخلق الرفيع أو المرتبة الرفيعة.
والرحمة هي عاطفة ذوي الأرحام وتدخل العاطفة مثلها في هذا القياس، فيقال عطف على الإنسان كما يقال عطف على المكان.
والجمال مادة تجمع بين التجمل بمعنى التزين والتجمل بمعنى أكل الشحم، وكأنما أخذوا وصف الوجه الجميل من الوجه الذي يمتلئ ويلمع، لأنه ليس بشاحب ولا معروق.
وبشر الأديم يبشره بشراً.. قشر بشرته التي عليها الشعر، والبشر تهلك بشرة الوجه كأنها ليس عليه حائل، والبشرة ما ظهر من نبات الأرض وعشبها.
ويبدو أن العلم والعلم والمعالم التي يعرف بها الطريق من مادة واحدة، وأن الشك مأخوذ من هيئة الرجل الذي يرتاب لأنه يطرق ويتأمل، أو من الظلع لأنه لا يسير على سواء.
والثقة ما يحصل من اليقين أو من الشد بالوثاق، والذكاء ملكة الفهم واتقاد النار.
ومن هذه المجازات ما هو قوي الدلالة على أحوال الأمة العربية في حياتها الأولى، فالكتابة والشكل والرسم والبلاغة والفصاحة والدلالة نفسها كلمات مستعارة من حياة أقوام رعاة وقبائل مترحلة.
فالكتابة والشكل بمعنى القيد، والرسم أثر خطو الإبل على الرمل في رسيمها أو سيرها على العموم، والبلاغة من الوصول إلى غاية المسير، والفصاحة من اللبن الفصيح الذي زال رغوه، والدلالة للقافلة كالدلالة للكلام.
وإذا قال العربي القديم إن العرب قوم أو قبيل فإنما يعني بالقوم طائفة من الناس تقوم معاً للقتال. فالشاعر الذي سأل (أقوم آل حصن أم نساء) لم يخطئ الغرض، وإنما جاء اللبس أو جاءت الحاجة إلى التفسير حين أطلقت كلمة القوم على الأمة كلها، فوجب أن تطلق في معناها هذا على الرجال والنساء.
وما الطائفة وما القبيل؟ إنهما جاريتان على هذا المجرى؛ فالطائفة أناس يمضون إلى قبلة واحدة.. ومثل هذا إطلاق كلمة القرن على الذين يقترنون في مولد واحد ثم أطلقت على الزمن الذي يقترنون فيه، ويشبه أن يكون الجيل بمعنى القرن على فعيل من جال التي تحولت من جويل إلى جيل.



التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية