للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

لغتناوالجمع بين التعزية والتهنئة في آن واحد

أ. دوان موسى الزبيدي

الموت أجل محتوم،وعبرة وعظة لكل حيّ،والحياة بين الولادة والموت أمدها قصير مهما طالت،ونحن في هذه الدنيا نستقبل ونودع،ففي كل يوم يولد أناس ويموت أناس،إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها...رثى الناس موتاهم نثرا وشعرا، وأصبح الرثاء أحد أغراض الشعرالتي تكاد تنحصر في خمسة، وهذه الأغراض هي : المدح والرثاء والغزل والهجاء والوصف وربما تفرع من هذه الأغراض الرئيسة أغراض أخرى فرعية، أو ربما اتخذ بعضها أسماء أخرى متقاربة في مدلولها كالغزل والنسيب والتشبيب وكالهجاء والذم .,..إلخ
على أن هناك غرضاً آخر لم يقف عنده الدارسون والنقاد مع أن أمثلته كثيرة جداً في كتب الأدب والثقافة العامة ودواوين الشعراء هذا الغرض هو الجمع بين التهنئة والتعزية في مقام واحد .‏
وكثيراً ما يحصل ذلك في قصور الخلفاء والملوك والأمراء ومن إليهم حين يموت أحدهم ويتولى ابنه الخلافة أو الإمارة مكانه ،ويدخل عليه وفود الناس معزين ومهنئين في آن وفيهم الأدباء والشعراء والخطباء وعندئذ يكون بينهم من ينقذ الموقف ويتدارك الأمر بلباقة نادرة، وحصافة موفقة ومطابقة لمقتضى الحال تحوز الرضا والإعجاب .‏
ومواقف الجمع بين التهنئة والتعزية –كما قلت- كثيرة جداً في شعرنا العربي حتى جعلت من هذا الشعر غرضاً شعرياً أو أدبياً مستقلاً غنياً بمادته واسعاً في معانيه وأفكاره طريفاً في توجهاته وأدائه .‏
فمن ذلك أنه لما توفي العلامة المؤرخ أبو الفداء ملك حماه سنة 732 هـ تولى بعده ابنه الملك الأفضل فدخل عليه الشعراء والأدباء وغيرهم يهنئونه بذلك ويعزونه بوفاة والده الملك المؤيد أبي الفداء وكان فيهم الشاعر ابن نباتة المصري ( -768 هـ) فأنشده قصيدة رائعة يعزيه فيها بوفاة والده ويهنئه في الوقت نفسه بتوليه الملك ومطلعها :‏
هناء محا ذاك العزاء المقدما    فما عبس المحزون حتى تبسما‏

وهي طويلة جداً بلغ عدد أبياتها واحداً وأربعين بيتاً ومنها قوله :‏

ثغور ابتسام في ثغور مدامع      شبيهان لا يمتاز ذو السبق منهما‏
تفيض مجاري الدمع والبشر واضح كوابل غيث في ضحى الشمس قد همى‏
مليكان : هذا قد هوى لضريحه        برغمي وهذا للأسرة قد سما‏
كأن ديار الملك غاب إذا انقضى به    ضيغم أنشا به الدهر ضيغما‏
فإن يك من أيوب نجم قد انقضى   فقد أطلعت أوصافك الغر أنجما‏
هو البحر ولى بالثناء مشيعاً      وأبقاك بحراً للمواهب منعما‏
ويقال إن أول من فتح للناس باب القول في هذا الغرض هو عبد الله بن همام السلولي ( - 100 هـ)وهو شاعر اسلامي أدرك معاوية بن أبي سفيان وذلك أنه لما مات معاوية اجتمع الناس بباب ابنه يزيد فلم يقدر أحد على الجمع بين التهنئة والتعزية حتى أتى هذا الشاعر –أعني عبد الله السلولي- فدخل فقال كلمة مزج فيها بين النثر والشعر ومنها : يا أمير المؤمنين آجرك الله على الرزية وبارك لك في العطية وأعانك على الرعية فقد رزئت عظيماً وأعطيت جسيماً فاشكر الله على ما أعطيت واصبر على ما رزئت .‏
اصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة واشكر حباء الذي بالملك أصفاكا‏
لا رزء أصبح في الأقوام نعلمه كما رزئت ولا عقبى كعقباكا‏
أصبحت والي أمر الناس كلهم فأنت ترعاهم والله يرعاكا‏
وعلى هذا السَنن(بفتح السين) سار الشعراء بعد عبد الله السلولي كأبي نواس وأبي تمام الطائي وغيرهما وجاراهم الأدباء والعلماء نثراً وخطابة حتى اتسع مجال القول في ذلك كما هو الشأن في أغراض الشعر كافة وشواهد ذلك كثيرة جداً منها أنه لما توفي الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وتولى بعده ابنه الوليد بن عبد الملك دخل عليه الناس وهم لا يدرون أيهنئونه أم يعزونه؟ فانبرى لذلك أحد الحاضرين فقال :‏
يا أمير المؤمنين أصبحت قد رزئت خير الآباء وأعطيت أفضل الأشياء فعظّم الله لك على الرزية الصبر وأعطاك في ذلك نوافل الأجر وأعانك على حسن الولاية والشكر ثم قضى لعبد الملك بخير القضية وأنزله بأفضل المنازل المرضية وأعانك من بعده على الرعية" فأعجب الخليفة الوليد بكلامه ورفع منزلته عنده .‏
 وقالت أعرابية لأبي جعفر المنصور بعد وفاة أخيه السفاح ،وتوليه الخلافة: «أعظم الله أجرك في أخيك، فلا مصيبة أعظم على الأمة من مصيبتك، ولا عوض لها أفضل من خلافتك».
وقد رثى أبو السمط مروان وكان شاعراً مجيداً ، موسى الهادي ابن المهدي وهنأ الرشيد بالخلافة وكان ذلك في ذات اليوم :
أيا يومَ الخميسِ ملأتَ حزناً=وتبريحاً قلوبَ المؤمنينا
خميسٌ كان أولهُ بكاءً=وآخرهُ يسرُّ المهتدينا
لئنْ جاءَ الخميسُ بما كرهنا = لقد جاءَ الخميسُ بما هوينا
أبو إسحاق ماتَ ضحىً، فمتنا = وأمسنا بهارونٍ حيينا
ودخل أبو دلامة على المهدي مهنئا له بالخلافة ومعزيا له في موت أبيه المنصور فقال :
عيناي واحدة ترى مـسـرورة *** بأميرها جذلى وأخرى تذرف
تبكي وتضحك تارة ويسوؤهـا *** ما أنكرت ويسرها ما تعـرف
فيسوؤها موت الخليفة محرما ***ويسرها أن قام هـذا الأرأف
ما إن رأيت كما رأيت ولا أرى *** شعراً أسرحه وآخر ينـتـف
هلك الخليفة يا لدين مـحـمـد *** وأتاكــم من بعد مـن يخـلـف
أهدى لهذا الله فضـل خـلافة *** ولذاك جنات النعيم تزخـرف
يقول صاحب الكشكول : لما مات الرشيد دخل الشعراء على الأمين ليهنؤونه بالخلافة، ويعزونه بالرشيد، وأول من فتح لهم هذا الباب أعني الجمع بين التهنأة والتعزية أبو نواس، فإنه دخل على الأمين، فأنشده:
جرت جوار بالسعد والنحس ... فالناس في وحشة وفي أنس
والعين تبكي والسن ضاحكة ... فنحن في مأتم وفي عرس
يضحكها القائم الأمين ويبكيها ... وفاة الرشيد بالأمس
ليس العجيب في الرثاء ،ولكن العجيب في أن لغتنا ماضاقت يوما عن تجسيد مواقف الحياة  ، ولا استغلقت على شعرائها في استحداث مايودون التعبير عنه في كل ما يدور في خلدهم  وما يستجد في حياتهم!....


التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية