|
|

إنقاذ العربية مسؤولية أهلها
أ.د. عبدالله التطاوي
مازال السؤال الحائر الذي يؤرق كل غيور على لغتنا العربية : متى ننتهي من ثقافة المؤتمرات والتوصيات والطنطنة الإعلامية والشقشقات اللسانية، والتباري في النحيب، والتباكي على واقع لغتنا العربية ومستقبلها دون تحوُّلات واضحة وجادة من خلال إرادات سياسية عربية أكثر صراحةً ووضوحًا تجاه تفعيل برامج الإصلاح اللغوي على مستوى الأمة كلها، ومعها برامج التحديث في مسار المناهج وصيغ التدريس والتدريب بما يضمن صحة مسار التكوين لدى الناشئة وأجيال المستقبل على المستويات الإقليمية.
قد يبدو السؤال طويلاً بقدر حجم المشكلة حين يتعلق أمر تدهور اللغة بحجم تقصير أبنائها من العلماء والخبراء والمتخصصين في صناعة طوق النجاة في شكل مشروعات تنفيذية، وبرامج عمل قابلة للتطبيق على أرض الواقع العربي بعامة، والواقع الإقليمي بخاصة، وهو ما يصعب تنفيذه إلا بمشاركة أصحاب القرار من قيادات الهيئات والمؤسسات التنفيذية القادرة على تحويل الطموحات والآمال إلى واقع معيش لدى أبناء الأمة.
وقد يبدو السؤال مؤلمًا لأنه متجدد بقدر تجدُّد المشكلة وتجذُّرها بين الناشئة ممَّن لا يهمهم – كثيرًا وربما قليلاً – أمر لغتهم بقدر ما يهمهُّم من تلبية مطالبهم الفكرية والثقافية واليومية من خلال عطاء اللغات الأجنبية واللهجات العامية بما ينتهي إلى تفريغ الفصحى من مضمونها المتعلق بالهوية والكيان الوطني والإيقاع القومي والوعي العربي العام.
كما يبدو السؤال مُلحًا إذا ما قصدنا إلى تفعيل النقد الذاتي ليكون مخرجًا لنا من محنة " تشخيص " حالات التردِّي والضعف اللغوي نطقًا وكتابة حتى لدى بعض المتخصصين بما يتناقض مع تاريخ العربية حين سادت الدنيا في عصر نهضة أهلها؛ فكانت لغة العلم والفكر والثقافة والمعرفة والإبداع حيثُ تكلم بها العلم لأكثر من ثمانية قرون من عمر الزمان حين عزَّ أهلها وأنتجوا بها العلم وصاغوا المعرفة فواكبت عزة اللغة عزة أهلها بمنظور ابن خلدون في المقدمة.
ويبقى السؤال الآخر : كيف السبيل إلى الخروج من أزمة العربية من خلال أبنائها الذين يتحملون مسؤولية ما أصابها من صور الضعف والتردِّي في موازاة أبنائها الذين يجب أن يتحملوا أعباء إنقاذها ؟ لتتعدد صيغ الإجابة؛ وهنا يجب أن تكثر الاجتهادات حول سُبل الإصلاح وبرامج الإنقاذ اللغوي التي تتطلب – على سبيل المثال - :
1- مراجعة جهود المؤسسات المعنية بالشأن اللغوي من مجامع اللغة العربية وكلياتها وأقسامها المتخصصة وجمعياتها ولجانها ووزاراتها وهيآتها لإعادة تحليل وتصنيف ما لديها من آلاف التوصيات، لإعادة قراءتها ودراستها وتحويل النافع منها والجاد إلى مشروع عَمَلي للتحديث اللغوي على غرار : مشروع معمل اللغة العربية – قنوات التعليم اللغوي والتدريب – النحو الوظيفي والتعبير الوظيفي – الوثائق القومية المطورة – تعريب العلوم وتوطين التكنولوجيا .. إلى غيرها من مشروعات مماثلة في القيمة والأهداف إذا ما حسنت النوايا وصحت المقاصد وأجيد تفعيل البرامج.
2- دراسة مشروعات التحديث الكبرى والوثائق الصادرة عن المجلس الدولي للغة العربية بحكم ما يعكسه من كم تبادل التجارب والخبرات في تدريس اللغات الوطنية لمختلف الشعوب من حيث تفعيل المهارات اللغوية بين القراءات والكتابة والتحدث والاستماع، وصناعة المعاجم التاريخية ومعجمات العلوم المتخصصة، مع إتاحة دراسة تاريخ العلم في جذوره العربية المبكرة وصولاً إلى أحدث منجزاته بما يحث أبناء العربية على استدعاء تاريخ علمائها الأفذاذ في قرون نهضتها وعصور تقدمها. ولتبقى الوثائق القومية الصادرة عن المؤتمرات الكبرى الدولية في حاجة إلى توزيع المهام على الجهات التنفيذية المسؤولة عن الأداء اللغوي من مثل : المؤسسات التربوية، التعليمية، الإعلامية، الشبابية إلى جانب الوزارات المعنية بالشأن اللغوي من وزارات التعليم، والتعليم العالي، والثقافة بما يعني قيام كل جهة بتبنِّي ما يسند إليها من مهام توضع موضع التنفيذ إلى جانب إبراز دور جامعة الدول العربية في تبنِّي قضايا رصد (الحالة اللغوية) بكل أبعادها ومتطلباتها وتداعياتها في صورة شراكة فاعلة مع اتحاد المجامع اللغوية إذا ما أحسن القيام بدوره المؤمَّل في هذا الصدد.
3- الحرص على تعريف ناشئة الأمة بقيمة هذه اللغة ومنزلتها العلمية والتاريخية، واختيار قراءات نصية رفيعة المستوى والدلالة من باب بناء ثقافة الثقة في أصالة الهوية، وتجنب صور الازدراء التي تهين فصحانا من خلال الترخص والابتذال في الخريطة الإعلامية أحيانًا، بما يتطلب إعادة الاعتبار لمعلمي العربية وتحديث مناهجها، وحسن إخراج كتبها على غرار كتب اللغات الأجنبية التي يعتز بها أبناؤها. مع ضرورة تعزيز ثقافة استنفار الهمم واستنهاض الأجيال للمشاركة في إنتاج العلم والمعرفة بديلاً عن دور المستهلك لهما والمستورد وما لهما من تداعيات موقف الدهشة والانبهار والتماهي مع الآخر الذي استورد بضاعتنا وبنى عليها وزاد في إثرائها ليعيدها إلينا دون دراية ناشئتنا بحقائق التاريخ جراء الهجمات الاستعمارية الشرسة وما بنى عليها من كفاح شعوبنا بحثًا عن التحرر الوطني الذي سجلت معه لغتنا العربية قدرتها على الصمود والبقاء والمقاومة.
فهل حان الوقت ليدرك أهل العربية حقيقة مسؤولياتهم تجاه إنقاذها بدلاً من تركها لغير أهل الخبرة والاختصاص لأن يتلاعبوا بمقدراتها في عصر العولمة الثقافية وما تتغياه من تهميش الهوية والتلاعب بالأدمغة ومسخ ثقافة الثقة بتاريخ الأمم والشعوب العريقة ؟!
|
|
|
|
|