|
|
|
|

الغربال المصري واللغة العربية
أ. عهد فاضل
ما إن تأتي مناسبة للحديث عن واقع اللغة العربية، حتى ينبري البعض للبكاء واللطم على "حال اللغة العربية اليوم"، كما لو أن تلك التي يدبج باسمها الرثاء، قد ماتت مغدورة وفي عز شبابها، أو كما لو أن الباكي واللاطم، هذا أو ذاك، يندب اللغة العربية بلغة غير عربية في الأصل، وإلاّ: لم كل هذا اللطم والتباكي والتخويف؟
رثاء لغة..
حدث هذا، في الأسابيع القليلة الماضية. حيث امتلأت الصحف بنشر مطوّلات الرثاء، التي أشارت وبمزيد من الحرقة واللوعة إلى رحيل اللغة العربية عن عالمنا، وعمرها يناهز العشرين قرناً! ولم يخطر ببال الورثة، أنهم ينعون عربيتهم الفقيدة، عبر اللغة العربية ذاتها.. ثم بادر البعض إلى لفت الأنظار إلى جماليات الفقيدة وأخلاقها الحميدة وأنها كم عبّرت عن كذا وكم نقلت كذا وكذا. والبعض لجأ إلى تذكير أهل الفقيدة بقدرتها على اختراع ألفاظ واجتراح مصطلحات، ثم إنها الآن – أي الراحلة – تركتنا يتامى، في عالم يغص بلغات حية تغطي سطح الكوكب.
حفظٌ أعمى أم استعمالٌ عصريّ؟
كل هذا يحصل، عبر استخدام اللغة العربية ذاتها، أي كما لو أن الراحلة هي التي تندب نفسها بنفسها، وإلا ماهو مبرر التباكي على واقع اللغة العربية من خلال اللغة العربية ذاتها؟
أهل الاختصاص في النحو والإعراب، يذرفون الدموع على ماتحفل به اللغة العربية الآن من أخطاء في قواعد الإملاء والصرف، وكان الأفضل عوضاً من التباكي المفرط على فقيدة لا زالت تتنفس مابين ظهرانينا، أن يتم تطوير منهج تدريسها على أساليب حديثة ترفع شأن الفهم، وتقلل من الإعتماد على الحفظ الأعمى، الذي وإن خرّج متكلمين لايخطئون في النطق والصرف وعموم النحو، فليس بالضرورة يضمن حسن استعمالهم العصري لها، أو استعمالهم الأدبي الناجح لها. كما أن تغيير مصطلحاتها التعليمية يفيد بتوصيل الفكرة أسهل وأسرع.
الحاء هاء عند الأوائل..
الأكثر غرابة، أن المتباكين على مايعرف بـ "حال اللغة العربية اليوم"، يريدون منها العودة إلى لغة المصنفين الأوائل، بكل ماتحمله لغتهم من إبهام وصعوبة، في بعض الأحيان، لا تتناسب مع منطق تركيب الجملة الآن، وعندما يتم تذكيرهم بأن العصر الحديث يتطلب لغة مرنة ذكية ومراوغة تستطيع التنقل مابين الإخبار والتحليل والوصف، دون أن تتحول درساً في الإنشاء المتكلف أو التعبير المتصنع، يعودون إلى أن قواعد النحو والصرف تتطلب كذا ولا تقبل الا كذا، وأن البيان العربي محكوم بكذا وكذا. في كل مرة يمسكون الطوق ويلفونه على رقبة اللغة، وعندما تعجز الأخيرة عن التنفس، يحكمون عليها بالانحراف عن القواعد وأنها خرجت من ملة المنطق السليم والتصنيف القديم! مع العلم أن في تاريخية اللغة العربية، من المرونة والتنوع، مايجعل تشدّد المحافظين بدون مبرر يذكر، فكيف إذا عرف القارئ، أن حرف الحاء ذاته، كان يُنطَق هاءً، لدى بعض القبائل العربية، وقد تم تسجيل ذلك اللفظ ونقله وتصنيفه في كتب المصنّفين الأوائل شعراً ومنقولاتٍ، كمثل البيت الشعري الذي تُنطَق فيه الحاءُ هاءً: للهِ درّ الغانيات المُدَّهِ (المدَّح) سبّحن واسترجعن من تألّهي (تنسّكي وتعبدي). إلى الدرجة التي يوحّد فيها الفراهيدي في كتاب العين، أقدم معاجم العربية، مابين الحاء والهاء، على أنهما واحد في اللفظ، وبقوله: "المدّه يضارع المدّح"، كما أن ابن منظور في لسان العرب قد نقل البيت الشعري السالف بحذافيره.
يدفنونها وهي حيّة!
ولعل أقسى بكاء وندب، هو الذي يكون على حي مقيم، يسمع وصف الناس له بالميت، وحزن المخلصين على فقدانه مأسوفا عليه، وهو ينظر ويراقب من حوله، عاجزاً عن القول لهم إنه لا يزال يتنفس! إذ كيف يتنكبّون عناء رثاءٍ صاحبه حيّ يكاد يقول رأيه في بناء الجملة أو بيانها أو جمالياتها؟ هو أمر لا يحصل إلا مع عشاق اللغة العربية الذين يدفنونها كل عام، عبر مناسبات تتحدث عن مستقبلها وحاضرها، ومن خلال العربية يتم البكاء على العربية، ليكون للمرة الأولى الراثي هو الفقيد، في ظاهرة تتجاوز قواعد اللغة وتدخل في نظرية فيزياء الكَمّ!
الأيام الأخيرة حفلت ببعض يعرض عضلات اللغة العربية كدليل قاطع على قوتها مابين لغات العالم، وحفلت ببعض يريد تنقيحها كما لو أنها تبرٌ بين رمال، وحفلت ببعض باكٍ على أيامٍ خوالٍ كانت الفصحى فيها (بزعمهم) لغة البيع والشراء وشفويات الناس، علما أن "أي شيء هو هذا" كانت تقال وتكتب "إيش هذا؟" اختصاراً وجمعاً وكذلك كتابة نقلها البعض في مصنفاتهم الكبرى كمعجم الأدباء للحموي في معرض نقله سيرة نحويين ورواة من مثل اسحاق بن مرار المعروف بأبي عمر الشيباني، وكذلك نقل المرزباني في "الموشح" صيغة الاستفهام (منو؟) عوضاً من (من؟) وهي صيغة لاتزال جارية في المنطوق العربي حتى هذه الساعة! فهل كان المصنفون الأوائل أكثر عصرية من نحويي العصر الحالي؟ وهل يريدون رجوع الجيل الجديد عن "خطئه" أم يريدون تقويم لسان ياقوت الحموي والمرزباني والفراهيدي وابن منظور؟
الغربال المصري..
اللغة العربية، الآن، عالمٌ واسعٌ على الشبكة العنكبوتية، ولغة فضائيات تتواصل مع عشرات الملايين من الناطقين بلغتها. وهي لغة شعر رفيع كتب ويكتب ورواية عربية اقتحمت المكتبة العالمية. وكان الأولى للدموع التي ذُرِفت على "حال اللغة العربية اليوم" أن تكون دموع فرح لا دموع حزن، ذلك أن اللغة العربية استطاعت أن تنتقل من عصر الى عصر، عبر مرونة أسلوبية واشتقاقية ثرية مكّنتها من أن تكون لغة أدب ولغة تأريخ ولغة تلفزيون ولغة تخاطب سريعة ومختصرة وغنية. مايجعل المتباكي على حالها والعاجز عن رؤية حاضرها، منضويا تحت المثل المصري الشهير: إللي مايشوف من الغربال يبقى أعمى!
العربية
|
|
|
|
|
|