|
|
سر النبوغ في الأدب - 3
د. محمد سعيد حسب النبي
أشار الرافعي إلى حاسة الإلهام كما أشرنا في مقالنا السابق، وهذه الحاسة هي كذلك من بعض الغرابة –وفقاً لرأيه، تكون في صاحبها الموهوب، كما تكون حاسة الاتجاه في الطيور التي تقطع في جو السماء إلى غاياتها البعيدة من قطب الأرض إلى قطبها الآخر بغير دليل تحمله، ولا رسم تنظر فيه، ولا علم ترجع إليه، وكما تكون حاسة التمييز عند النحل الذي يبني عسلته على هندسة ليست من كتاب ولا مدرسة، وحاسة التدبير في النمل الذي يدبر مملكته بغير علوم الممالك وسياستها، وكثيراً ما يجيء الأديب الملهم من حقائق الفكر وبيانه، وأسرار الطبائع وأوصافها بما يغطي على فلسفة الفلاسفة وعلم العلماء، ومثل هذا العبقري هو عندي فوق العلم ، و لا أقول بدرجة، ولكن بحاسة.
وبالإلهام يكون لكل عبقري ذهنه الذي معه، وذهنه الذي ليس معه، إذ كانت له من وراء خياله قوة غير منظورة ليست فيه، ومع ذلك تعمل كما تعمل الأعضاء في جسمه، هيّنة منقادة كأنها تتصرف على اضطراد العادة بلا فكر ولا روية وفى عسر ما دامت تتجلى عليه.
وليست تتصل هذه القوة إلا بتركيب عصبي تكون فيه الخصائص التي تصلح أن تتلقى عنها، وهي في العبقريين خصائص مرضية في الأعم الأغلب –في رأي الرافعي- بل لعلها كذلك دائماً، ليتسر بها العبقري لحالة خفيفة من الموت، يحمل بها كده وتعبه وما يعانيه من مضض الفكر وثقلته، ثم لتكون هذه الحالة كالتقريب بين عالم الشهادة فيه وبين عالم الغيب منه، فالتركيب العصبي في دماغ العبقري إنسان على حياله مع إنسان آخر، أحدهما لما في الطبيعة، والثاني لما وراء الطبيعة، ومن ثم كان الرجل من هذه الفئة كالمصباح: يتقد وينطفئ لأنه آلة نور تعرض لها العلل فتذهب بقدرتها عليه، وتنضب مادة النور منها، فكذلك لا تقدر عليه، وتكون مضيئة فتنطفئ بسبب ليس منها ولا من نورها، وهي على كل هذه الأحوال لا تملك منها حالة، فبينما العبقري الذي يملأ الدنيا من آثاره النابغة، تراه في حالة من أحواله يدأب لا يأتلي فيجد في العمل ويبذل الوسع فيه ويصير على مطاولة التعب في إحكامه ويفيض به فيضاً وكأن في طبيعته الربيع المتفتح طول أيامه بالجمال- إذا هو في حالة أخرى يتلكأ ويتربص لا يعمل شيئاً كأنما دخل في قريحة الشتاء، وفي ثالثة يتباطأ ويتلبث فلا يعنُّ له جديد كأنما حبس عنه فكره أو نبا طبعه أو هو في قيظ طبيعته وخمولها وضجرها، ثم لا تمضي على ذلك إلا تَوةٌ وساعة فإذا على صيفه هواء نوفمبر وديسمبر.
وإذا هو منبعثٌ ملء القوة والنشاط، وربما يأخذ في غرض من الكتابة قد رسم له المعنى وهيأ له المادة، فلا يكاد يمضي لنحو منه حتى تتناسخ في ذهنه المعاني فإذا هو يكتب ما لا يشبه ما كان ابتدأ به، ويأتيه غير ما كان قد أراده، كأنما يلقى عليه فهو يستملي، وقد يبتدئ معنى ثم يقطع عنه بطارئ من عمل أو حديث، ثم يعاوده فإذا معنى آخر وإذا جهة من الفكر هي جهة الإبداع والاختراع في موضوعه، وإذا هو كأنما يجر بذلك الصارف عن معناه الأول جراً ليدعه إلى الأكمل والأصح، وأيقن أنه لو كان استوفى على ما بدأ لأسفَّ وضعف وجاء بما غيره أقدر عليه، كأن هذه القوة الخفية التي تلهمه تنقح له أيضاً بأساليبها الغربية، وقد يكون آخذاً في عمله ماضياً على طبعه مسترسلاً إلى ما ينكشف له من أسرار المعاني ثَقِفاً من هنا لَقِفاً من هناك، ثم ينظر فإذا هو قد مُسح لوح خياله، ويطلب المعنى فلا يتاح له، ويتمادى فلا يزيد إلا كداً وعسراً كأنما ذهب إلهامه في غمض من غموض الأبدية، وكل من ارتاض بصناعة الفكر واستحكمت له عاداتها ومر في درجاتها حتى بلغ المكانة التي يستشرف منها للإلهام، ويتعرض فيها بروحه وبصيرته لنبضات الوحي وانكشافات الغيب، يعلم أن كل معنى بديع يأتي به في صناعته إنما يقع له إلهاماً من ذلك المعنى الحي المتمدد في الكائنات كلها، ظاهراً في شيء منها بالضوء، وفي أشياء بالألوان، وفي بعضها بالحركة، وفي بعضها بالانسجام، وفي بعضها بالروعة والفخامة، وفي غيرها بنصبة الهيئة، وظاهراً في حالات كثيرة بأنه غير ظاهر، ويعرف كذلك أن هذا المعنى الشامل الذي يحد هو الذي ينقل الوجود كله إلى نفوس النوابغ متى نبض في هذه النفوس الرقيقة وأشعرَها سرَّه، وإذا همَّ النابغة أن يتوضحه لا يرى شيئاً، وإذا أراد حجة عليه لم يستطع الجلاء عن بيانه بكلمة، وإذا التمس التعريف به لم يجد إلا ما يشهد له إحساسه وقلبه، وهذا الذي ينقدح في أذهان النوابغ أفكاراً حين يفيض لكل منهم بسبب من قراءة أو مشاهدة أو حالة أو مراس، وهو بعينه الذي ينقدح عشقاً في قلوب المحبين حين يتراءى لكل منهم في معنى على وجه جميل، ومن ثم كان النابغة في الأدب لا يتم تمامه إلا إذا أحب وعشق، وكان الأدب نفسه في تحصيل حقيقته الفلسفية ليس شيئاً سوى صناعة جمال الفكر.
ويضيف الرافعي أن هذا العمل في ذلك الجهاز العصبي الخاص به في بعض الأدمغة هو الذي كان يسميه علما الأدب العربي بالتوليد، وقد عرفوا أثره، ولكنهم لم ينتبهوا إلأى حقيقته ولا أدركوا من سره شيئاً، وأحسن ما قرأه الرافعي في ذلك قول ابن رشيق في كتاب العمدة: "إنما سمي الشاعر شاعراً لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استطراف لفظ وابتداعه، أو ريادة فيما أجحف فيه من المعاني، أو نقص مما أطاله سواء من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر – كان اسم الشاعر عليه مجازاً لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن" هذا كلام ابن رشيق كما يقول الرافعي، وليس لهم أحسن منه، وهو مع ذلك تخليط لا قيمة له، وليس فيه من موضوع الرافعي إلا لفظ التوليد.
|
|
|
|
|