|
|
|
|

حماية اللغة العربية بالقوانين
أ. عبدالعزيز التويجري
يعقد في دبي المؤتمر الدولي الرابع للغة العربية بدعوة من المجلس الدولي للغة العربية. وفي هذه المناسبة رأيت أن أذكّر من يعنيهم الأمر بأن تطور اللغة العربية في الاتجاه الذي ينهض بها لن يتم، ما لم تكن هناك قوانين تصدرها المجالس المنتخبة، من برلمانات ومجالس شورى، تلزم الحكومات بتنفيذها. فالتشريعات القانونية هي التي تضمن عملية الإصلاح والتجديد والتطوير للغة العربية، لأنها تعبر عن إرادة الشعوب، وتعكس التوجّهات العامة الرامية إلى ردّ الاعتبار للغتنا في حياة المجتمعات العربية.
فحماية اللغة العربية لن تتم بالنيات الحسنة وبالإرادات الطيبة، ولا بالجهود الفردية أو الجماعية. فالحماية القانونية هي عماد الحماية الأدبية لأن لغتنا العريقة تتعرض اليوم لخطر شديد يحدق بها، تتعدد مصادره، ولكن يأتي في المقدمة منها، حال أهل اللغة المتسم بالضعف والتفكك، وهيمنة اللغات الأجنبية والعاميات المتعددة.
إن آفة اللغة العربية اليوم أنها غير مسنودة بالتشريعات الملزمة والأنظمة الحامية لها التي تصدّ عنها عدوان المعتدين. ونستطيع أن نقول إن اللغة العربية مكشوفة بلا غطاء قانوني يقيها شرَّ المتربصين بها. بينما اللغات الحية في العالم كله، مدعومة بالتشريعات ومدعمة بالأنظمة، أو إذا شئنا قلنا مدعمة من الأنظمة.
وتنصّ الدساتير والأنظمة الأساس في كل الدول العربية من دون استثناء، على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة، ولكنها لا تنص على الآليات لحماية هذه اللغة. وفي بعض الدول يترك تحديد تلك الآليات الحمائية للقوانين التنظيمية التي تتخذها الحكومات وتصادق عليها البرلمانات.
أذكر على سبيل المثال، بعضاً من القرارات والتوصيات التي صدرت عن المؤتمر الحادي والثمانين لمجمع اللغة العربية في القاهرة، الذي عقد تحت شعار «اللغة العربية وعالم المعرفة»، والتي لا سبيل إلى تطبيقها في واقع الناس، إلا بالتشريعات الملزمة. فقد نصت التوصية الثانية على «ضرورة اعتماد سياسة لغوية ملزمة، تخطط لتعريب تدريس العلوم في المدارس والجامعات، وتعمل على استصدار القرار السياسي الملزم في هذا الشأن». فهذا الربط المحكم بين السياسة اللغوية الملزمة وبين القرار السياسي الملزم، هو مدار الأمر كله.
وتنص التوصية الرابعة، وفق ترتيب القرارات والتوصيات المعتمدة من المؤتمر السنوي لمجمع اللغة العربية، على «الدعوة إلى أن تهتم وزارات التعليم العربية بوضع منهجية وظيفية جديدة في إعداد المعلمين وتأهيلهم وتدريبهم، تركز على استخدام الفصحى الميسرة، وتوفير الجوانب العملية التطبيقية في تعليمها، بحيث تصبح اللغة العربية الصحيحة حية ومستخدمة في مجالات النشاطات المتعددة طوال اليوم المدرسي للدراسة». وحتى تقوم الوزارات المعنية باعتماد هذه التوصية، فإنها تحتاج إلى قرار سياسي تتخذه الحكومات.
أما التوصية الخامسة المهمة فتتعلق بـ «القرار الذي اتخذه وزير التعليم المصري بضرورة التزام المدارس الدولية والأجنبية في مصر بمقررات اللغة العربية والتربية الدينية التي تلتزم بها المدارس الحكومية، وأن تكون هذه المدارس تحت الإشراف المباشر لوزارة التربية والتعليم، حتى لا تؤدي إلى تشويه الهوية المصرية والانتساب إلى الثقافة العربية والإسلامية عند النشء المتعلم».
وإذا نظرنا إلى مسألة إشراف وزارة التعليم المباشر على المدارس الدولية في أي دولة عربية، فإننا نجد أنفسنا أمام قرار بالغ الأهمية جدير بالمتابعة قابل للتنفيذ إذا ما أسند بالإرادة السياسية، لأنه أمر يتعلق بسيادة الدولة وبهويتها وبانتمائها الحضاري. وبذلك تتداخل اللغة العربية مع السياسات المعتمدة، ما يقتضي، في كل الأحوال، سنَّ تشريعات مواكبةٍ لهذا التداخل.
هذا الربط الموضوعي بين النهوض باللغة العربية من النواحي كافة، وبين السياسات المعتمدة، يؤكدان لنا أن صانعي القرار السياسي يتحمّلون المسؤولية في إنجاز عملية تطوير اللغة العربية وتحديثها، إلى جانب علماء اللغة والخبراء اللغويين وأعضاء المجامع اللغوية العربية والجمعيات والمؤسسات الأهلية المهتمة بهذا الأمر.
لن تكون نتائج مؤتمر دبي ذات جدوى عملية وتأثير قوي في حياة هذه اللغة، ما لم تعرض على الحكومات العربية لاتخاذ القرار السياسي الملزم، بحيث تصبح سارية المفعول. ولذلك فإنني أؤكد ضرورة أن يصدر عن هذا المؤتمر الدولي، نداء إلى الدول العربية بالخصوص، يدعوها إلى إيلاء الاهتمام بالقرارات والتوصيات التي ستصدر عنه، والتي صدرت عن مؤتمرات لغوية أخرى تناولت القضايا نفسَها.
فليس ثمة من سبيل إلى تحقيق الأهداف النبيلة التي يسعى إليها هذا المؤتمر وغيرُه من المؤتمرات التي تعنى بحاضر اللغة العربية وبمستقبلها، سوى الإلحاح على استصدار التشريعات والأنظمة القانونية التي تترجم الأفكار البناءة التي نعبر عنها في اجتماعاتنا، إلى حقائق على الأرض. والحفاظ على اللغة العربية يبدأ من المنطلق الأساس، ألا وهو إيجاد الحل للمسألة اللغوية في التعليم، حتى لا تظل هذه المسألة معلقة تثير الخلافات، وتبعث على القلق، وتعطل العملية التعليمية، وتفرغها من محتواها. على أن يتم ذلك في أجواء من التوافق والشفافية، وبروح المواطنة الحق، وبتغليب المصلحة العليا للوطن. فالعناية باللغة العربية في مراحل التعليم المختلفة، من رياض الأطفال والمدارس والمعاهد والثانويات إلى الكليات الجامعية، يُكسبها مزيداً من القوة والمناعة والقدرة على الأخذ والعطاء والتفاعل مع المتغيرات، ما ينعكس بصورة تلقائية وفي شكل مباشر، على مستويات اللغة العربية في وسائل الاتصال الإلكتروني، فلا تبقى لغة قاصرة عن الوفاء بالحاجات المتجددة، وعاجزة عن مسايرة التطورات المتلاحقة التي يحفل بها عالمنا اليوم.
الحياة
|
|
|
|
|
|