|
|
|
|

الببَّغائيَّة عند دعاة العامّية
أ. عبد الرحمن عزوق
الدعوات المتكررة، منذ أن دخل المستعمِر بلاد العرب، تحمل بذور موتها بنفسها لأن هذه اللهجات الدارجة، كما يقول علماء اللغة، لا تصلح للأمور الجدية التي تحتاج إلى تسلسل منطقي وإلى ملاحقة منطقية أيضا، وأن هذه العاميات متعذرة عن الكتابة، نظرا للأشكال المختلفة التي يكسبها الجزء الصوتي الأصغر في الكلمة، وهو ما يُعرف في اللغات الأجنبية باسم (فونيم).
وهذه العاميات، أيضا، تقتصر على جماعة بشرية محدودة، فلا يُعقل أن نلقي درسًا بلهجة سكان غرب البلاد، ونطمح أن يفهمه أطفالٌ من شرق البلاد، بينما التدريس باللغة النموذجية المشتركة، قادر على فهمه من قبل الجميع.
مبرّرات أصحاب دعوات العامية
يقول أصحاب هذه الدعوات المتكررة: واقعنا اللغوي المتنوع، كما هو معلوم، ناتج عن أحداث تاريخية، تعاقبت على بلادنا منذ قرون، ونظرًا لذلك فإن للطفلِ الجزائري خصوصياتٍ، وربما في بلاد عربية أخرى، حيث يجد منذ دخوله المدرسة، حالةً لغوية صعبة، تكون فيها اللغة العربية الفصحى لسانا جديدًا بالنسبة إلى لهجته الطبيعية التي اكتسبها بالأمومة، وتزداد هذه المشكلة صعوبة، حين يكتشف في واقعه لغات أخرى، من لهجات عامية إلى لغة عربية فصحى ولغة فرنسية، يتمّ بهما التدريس في مختلف مراحل التعليم.
ويقولون أيضا، للدارجة أهمية كبيرة عند الطفل أي المواطن، وهي التي تقوم بوظائف أساسية تتمثل في التخاطب اليومي، والتعبير عن الانتساب إلى مجموعة ثقافية حضارية واحدة.
أما بالنسبة إلى العربية الفصحى، فهي تقوم بوظيفة دينية (ناسين كل ما أنتجته من العلوم والآداب عبر عهود) أما لغة الصناعة، كما يقولون، أيضا، فتقوم بها اللغة الفرنسية، فالطفل أو المواطن الجزائري، ينشأ في محيط لغوي يختلف عن لغة التعليم، إذا تعلق الأمر بالدارجة يكون اختلافا محدودا، وتكبر النسبة إذا تعلق الأمر بخليطٍ من اللغات، زيادة على الاختلاف في المحيط المدرسي والبيئة الاجتماعية، ويزيد الأمر صعوبة.
ومن هنا يأتي الشعور بالغربة الناتجة عن هذا التعدد اللغوي، لأن الطفل يحس أنه غريب بين لغة التدريس واللغة المكتَسبة بالفطرة.
ومن هذه الأمثلة التي يسوقها هؤلاء أن الطبيب، مثلا، يتواصل مع المريض بالعامية، والمهندس يتواصل مع العامل في المصنع بالعامية، وقس على ذلك مختلف التخصصات.
ويقولون أيضا، إن لغة التواصل الطبيعي هي العاميات، وليس الفصحى، ومن ثمَّ، فإن الانفتاح على هذا الجانب أصبح تطويره واجبا تربويا!
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، كما يقولون، فإن التواصل والحياة اليومية يتم بالدارجة، لذلك فإن تبنّي المقاربة الاتصالية بين المواطنين في تعاملهم اليومي يبرر هذه الدعوات، والتي تعكس في الإحالة، ضمن هذا التواصل إلى الدارجة التي تعوّد عليها الطفل المواطن.
وقد أصبحت هذه العاميات، عندهم، هي لغة الحياة اليومية في كل البلدان العربية، وليس فقط في الجزائر، تتعامل بها العامة والخاصة في شؤون الحياة، فالأئمة وأساتذة الجامعة والأدباء، كلهم يتكلمون بالدارجة.
الرد على هذه الدعوات المتكررة
لا أحد ينكر أن اللغة العربية الفصحى تستمدّ قوتها من خصوصياتها الذاتية والموضوعية، التي تجعل منها لغة مرنة قادرة على التفاعل مع الإنسان والعالم، مسايِرة لما يُستجدّ في هذا العصر، ثقافيا وعلميا ومهنيا.
إنها الوعاء الفكري المتطور باستمرار للحضارة العربية الإسلامية، كما أنها الوسيلة الصالحة، من خلال تراكيبها وأنساقها النحوية والصرفية والصوتية والبلاغية والمعجمية، للتعبير عن القضايا المختلفة الفكرية والسياسية والاجتماعية، رغم بعض الصعوبات التي تعرقل إمكانية توظيفها في كل ما ذكرته.
وسبب هذه الصعوبات، في نظري، يرجع إلى عوامل داخلية تتعلق بأهل هذه اللغة، وخارجية ترتبط بالتأثير السلبي الذي تمارسه عليها اللغات الأجنبية المنافِسة لها من حيث الاحتكار التداولي الشفهي والكتابي.
إن تهميش الفصحى في تدبير الشأن التربوي، ومن ثم الشأن الاجتماعي والسياسي والثقافي وغيرها، وتعويضها بالعاميات، مهما كانت المبررات، لا يمكنه أن ينتج لنا نمطا من الوعي متسما بالتكامل والانسجام بين مختلف عناصره ومكوناته، بل ينتج خليطا من الوعي لا ينمُّ عن شخصية متكاملة بالمفهوم الاجتماعي والنفسي للشخصية.
أما على المستوى الحضاري، فلا ينتج هوية واضحة منسجمة الأبعاد والمكونات.
ومن وظائف الفصحى، أيضا، حماية الهوية الثقافية العربية الإسلامية، وتقوية الوحدة الوطنية، والتوافق الثقافي والاجتماعي.
ورغم الجهود الكبيرة التي بذلتها الدولة في قطاع التربية والتعليم، منذ الاستقلال، فإن النتائج المحصل عليها، ظلت دون الأهداف المرسومة، وفي مقدمتها التعريب الفعلي، وهكذا أصبح القطاع الأكثر أهمية، يواجه صعوبات تتزايد، فتكرست المشكلة وأثرت انعكاساتها السلبية في باقي القطاعات، الأمر الذي أصبح الإصلاح الحقيقي معه حتميا وعاجلا.
وإذا كانت هذه هي حقيقة قطاع التربية والتعليم، عندنا، في علاقته مع ذاته ومحيطه، ومما لا شك فيه، أنه يعيش مفارقة كبيرة تتجلى في ضخامة الإنفاق وهزالة النتائج.
ماذا ينتظر من النخبة اللغوية عندنا؟
الإجراءات التي يمكن أن تُتخذ، ينبغي أن تكون إجراءات علمية تنفذ إلى العمق، وتتطلب تكوين خطاب يُعهد تحضيرُه إلى المختصين في اللسانيات وعلم النفس والاجتماع والمجالات العلمية الأخرى.
ويبدأ هذا العمل من ضرورة تحديد وظائف هذه اللغة، ابتداء من الواقع، لأن الثقافة تتميز بتنوّعها، واللغة العربية لها وظائف متكاملة، كما قلت، وإسهامات إيجابية كثيرة جدا عن هذه الثقافة. وكل لغة تنمو وتتطوّر تحت تأثير عوامل داخلية وخارجية، كما رأينا.
ومن مهام النخبة اللغوية أن تجعلنا نتجاوز مرحلة المحافظة اللغوية إلى مرحلة التطوير اللغوي، مثلما فعل أسلافنا الميامين، وتجاوزها مرحلة النخبة المتعلمة إلى الجمهور المتعلم. وهذا هو الوقت الذي يجب على هذه النخبة أن تضع علوم اللغة بين يدي هذا الجمهور المتعطش لها، بشرط واحد هو أن تقدم له ميسرة حتى تروي ظمأه.
وبهذه الوسيلة، في نظري، نرد على دعاة العاميات القائلين بأن اللغة العربية الفصحى هي مجرد تاريخ وماضٍ انتهى.
على العموم، فإن التربية في جوهرها، هي إعداد المواطن لمواجهة الحاضر والمستقبل، ولما كان الحاضر دائم التغير، ولما كان المستقبل مجهولا، فهذا يفرض علينا الحاجة إلى التقويم الدائم لبرامج التكوين الأساسي- وليس بتغيير لغة التدريس- وإلى تدارك النقائص ومسايرة المستجدات في إطار التعليم باللغة الرسمية للدولة الذي يجب أن يؤخذ مأخذ الجد كمشروع لتطوير المنظومة التربوية والتعليمية من أجل إصلاح شامل وحقيقي.
وأعود إلى النخبة اللغوية فأقول: صحيح أنه من مشكلات اللغة العربية افتقارها إلى المصطلحات المختلفة التي تزداد يوميا، ولكن من الذي يضع هذه المصطلحات؟ أليست هذه النخبة هي المؤهلة لتوليد ما تحتاجه هذه اللغة من مصطلحات؟
إننا ننتظر من خبرائها القيام بهذه المهمة النبيلة.
اهتمام الأجانب باللغة العربية
في الوقت الذي نلاحظ فيه الاهتمام باللغة العربية وحضارتها، حيث ازداد اهتمامهم كثيرا في السنوات الأخيرة، وتشهد أوروبا، حاليا، موجة متصاعدة من الانفتاح الثقافي على العرب ولغتهم، ومن إقبال الطلبة والباحثين الأوربيين على تعلّم اللغة العربية، نلاحظ تدنيا لُغويا مخيفا في جميع البلدان العربية، والجزائر بشكل خاص، وفي مختلف المستويات، حتى أصبحنا نسمع من يدعو إلى التعليم بالعامية!
وأخيرا، إن أفكارا أخرى لم أتطرق إليها في هذه السطور، بإمكانها أن تقدم لنا منطلقاتُها، رؤى، قد تكون متكاملة مع هذه الكلمة، أو مختلفة معها، الأمر الذي يثري هذا التصور لهذه المشكلة في شتى مكوّناتها ودلالاتها وأبعادها، ولكن الحيز المخصص لمثل هذه المساهمات يفرض عليَّ التوقف عند هذا الحد، شكرا.
الشروق
|
|
|
|
|
|