|
|
|
|

الدارجة للتعليم بالجزائر مسعى لنسف النسق
أ. بشير عمري
لا تفتأ السلطة في الجزائر ذات الرؤوس المتعددة والمريبة تواصل مسلسل تفجير الأزمات وخلق طوارئ سياسية تمكنها من الاستفادة في مناورتها في معركة البقاء بفرضيته التوريثية أو التعيينية، أي عرب تعيين. وهكذا فبعد زوبعة الغاز الصخري والمحاكمات الاستعجالية لطي ملفات الفساد فجرت الوزيرة المثيرة للجدل، نورية بن غبريت، مفاجأة من العيار الثقيل بإطلاقها لمشروع قالت إنه سيدخل حيز التنفيذ الموسم الدراسي القادم المتمثل في التدريس بالعربية الدارجة بدلا من اللغة العربية الفصحى، الأمر الذي أثار جدلا واسعا في المجتمع الجزائري لا سيما مجتمع المعرفة والثقافة. فقد رحبت الجهات الفرانكو بربرية بالقرار على اعتبار أنه سينزل العربية في التعليم من عرشها بما يتيح للفرنسية من العودة وبقوة لاعتلاء قمة النشاط المعرفي والتعليمي في المجتمع الجزائري في وقت يتقلص بشكل مهول تأثير هذه اللغة أدبا وفلسفة ومعرفة في العالم كله.
المتفحص والمتصفح بشكل دقيق لقصة صراع الهوية على مستوى المدرسة الجزائرية لا يلبث أن يكتشف أن مثل هذا المشروع قديم جدا وهو ليس من بنات أفكار الناظر التعليمي الجزائر ولا من عبقرية مسؤوليه السياسيين والقطاعيين، إنما هو طرح جوهري استراتيجي في الفكر الاستعماري الذي بنت على أسسه فرنسا زحفها على رقعتي التاريخ والجغرافيا في منطقتي المشرق والمغرب العربيين، ذلك لأن اللغة العربية المحمولة والمحمية بالإسلام ظلت الملاذ والمثوى الأبدي للهوية الوطنية التي صاغها الإسلام وفق رؤية هذا الأخير وحكمه على التاريخ. المتغربون في المجتمع الجزائري ظلوا وفيين لنظرية القلق الألسني الذي أسست له فرنسا عبر أطروحتها التلفيقية التفريقية بما يتيح لها التموقع كقاسم مشترك ألسني يجمع أو يوحد الأمة في ظل التعانف المصطنع بين متنطعي اللغتين العربية والامازيغية اي بين عروبية قومجية خالية من حقائق التاريخ، وأمازيغية محشوة بأكاذيب الانتماء المختلف تاريخا وجغرافية، قاربت فرنسا الرؤيتين وانشقت النخب وفق أطارحيها في معركة شبيهة بمعركة الباسوس. ما يؤكد فرضية تحريك هذا المشروع الاستعماري القديم هو سعي الوزيرة المعروف عنها كرهها للغة العربية وعدم قدرتها على تركيب جملة مفيدة بها، هو تزامن هذا القرار المقبر للغة الوطنية والرسمية للبلاد في حقل المعرفة، في مقابل جهود تطوير الامازيغية وإعادة توسيع نطاق تدريس اللغة الفرنسية في الابتدائي بعدما كانت المدرسة الأساسية في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينات قد قلصت منه بشكل واسع ما أتاح للجزائريين فرصة الانعتاق من أسر الفرنسية والتحول إلى لغات أخرى أبرزها الانجليزية، الأمر الذي أغضب فرنسا واللوبي الفرانكفوني في غير ما مناسبة. فكيف يُعمد إلى الرفع من مستوى الامازيغية في المدارسة الوطنية في مقابل إنزال اللغة العربية إلى مستوى «التدريج»؟
ثم، فيمَ ستختلف مدرسة محو الأمية التي تهدفالى انتشال شرائح من المجتمع الجزائر من كبار السن أو ممن حالت أوضاعهم الجغرافية الصعبة دون الحصول على تعليم «فصيح» عن مدرسة التعليم المعرفي التي ستدرس بالدارجة؟ فلربما أضحت مدارس محو الأمية أسمى من المدارس النظامية المعرفية لكونها تسعى للخروج بمرتاديها من عالم العامية إلى عالم الفصحى في مقابل خروج التلاميذ من المدرسة الفصيحة إلى العامية !
من هنا يتضح أن آلة التدمير الذاتي التي تمارسها فرنسا عبر أذانيها في الجزائر، قد ارتأت التحول من نطاق الدفاع إلى الهجوم، اي بعد تجميد قانون تعميم إستعمال اللغة الوطنية العربية في عيد استقلال الجزائر 05 جويلية 1992، ثم تحييده بعد ذلك بشكل نهائي ولا رجعة فيه، شُرع حاليا في تدمير أهم قلاع اللغة العربية وهي المدرسة التي اتهمت بأنها مرتع نمو وتطور الإرهاب والتطرف الديني كما يتردد في مسارح الخطاب الفرانكفوني.
فهي إذن قفزة نوعية في نضال التيار التغريبي الفرانكفوني، الذي يسعى جاهدا لاستغلال الظرف الصعب الذي تحياها المنطقة بإكمالها عبر تداعيات الهزة التاريخية الكبرى للقطرية العربية من خلال ما يعرف بالربيع العربي. أين تمت خلخلت تراتبات القيم والمشاريع التي كانت سائدة بسيادة ديكتاتويات تقتات على صمت الشعوب واستقرار الجهل وطغيان المشاريع الأمنية سياسيا وثقافيا واقتصاديا، واستثماره الجيد للظروف التي تعيشها الجزائر من تطاحن شرس على هرم السلطة، ما أضعف أداة الحسم السياسي والمسؤول في كثير من القضايا لعل أبرزها تلك المتصلة بإشكالات الهوية.
وهكذا إذن، وفي ظل ما تحياه الجزائر حاليا من عدمية سياسية، والضياع النخبوي، وانتفاء الجهد الاضافي الذي يناط به المجتمع المدني، تضخم الوحش الفرانكفوني وصار يكتسح فضاءات أخرى ويكسب وبسرعة ضوئية مساحات إضافية في رقعة حرب الهوية التي لا تنفك فرنسا عن تأجيجها خدمة لمصالحها وطعنا في استقلال الجزائر الذي كان ولا يزال علامة على هزيمتها الحضارية والتاريخية. فالوحش التغريبي الفرانكفوني بتحكمه في مصادر صنع القرار التربوي مذ أبعد المفكر والسياسي الكبير على بن محمد عن وزارة التربية سنة 1992 أي بالموازاة مع توقيف المسار الانتخابي والزج بالبلاد في أتون حرب ضروس أتت على الأخضر واليابس وحصدت أنفس زهاء ما يقرب عن ثلاثمئة الف مواطن، إنما يروم الوصول إلى كسر النسق الثقافي الاستقلالي الذي تأسس على بنيانه المشروع الوطني وفق تراتبية انتمائية كانت اللغة العربية أبرز مرتكزاته، ما سينجم عنه تمييع الشخصية الوطنية وإعادة صياغتها وفق رؤى جديدة لا تختلف في طبيعتها عن أطاريح الاستعمار العولمي الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية والذي يريد أن يصوغ مجددا التاريخ والجغرافيا في المشرق عبر مشروعه المحبط والمحبَط الشرق الأوسط الجديد !
إن تحالف المال والسياسة في الجزائر وما أفرزه من تضييع البوصلة المجتمعية التي كان الجميع يهتدي بها حتى في أشد واقوي فترات الصراعات السياسية بين مختلف نخب المجتمع، بات ينذر بالخطر ويتهدد الوجود الوطني بذاته، بفعل الجرأة اللا مسؤولة من بعض التيارات التي تتهور في سعيها لفرض مشروعها من دون إيلاء أدنى اهتمام لتداعياته على نسق التعايش العام، وهنا يفرض السؤال نفسه لماذا تم التعامل مع التيار الإسلامي المتطرف بعنف حين استشعر حرس الهوية الوطنية تهديداته على هذا النسق العام، في وقت يغض فيه الطرف عن التيار المتطرف العلماني وهو يدهس في طريقه إلى فرض مبتغاه، كل علامات التحذير دونما أن يقابل بالردع؟
القدس العربي
|
|
|
|
|
|