|
|
|
|

أما آن للعربية أن تسلم من التهميش والتهجين؟
أ. محمد سريج
"تدريس العامية في الابتدائي" ـ السنتين الأولى والثانية ـ هذا المشروع أسال الكثير من الحبر، ولا أرى سكوتا إلا إذا ألغي، لأنه ـ حسب ما يبدو لي ـ ما هو إلا بداية تدريجية لإبعاد الطفل عن لغته السليمة البعيدة عن اللحن والخطأ، وربما إذا قدر لهذه المشروع أن يمرر سنتوقع في السنوات القادمة ما هو أسوأ، فالواقع الذي نعيشه اليوم لا يختلف فيه عاقلان من أن التلميذ وحتى أغلب الطلبة في الجامعة لا يتقنون حتى تكوين جملة بسيطة مفيدة، ولنا الكثير من الأمثلة، خاصة أثناء تقديم البحوث، تخال نفسك أمام أمي لا علاقة له باللغة الفصحى إطلاقا والأمثلة كثيرة ومتعددة لا يتسع المقام هنا لذكر كل الأمثلة. إذا الحال كذلك فما الذي سيكون إذا شرع في تدريس العامية.
ليس لي تفسير من وراء كل هذا سوى أن أنصار المدرسة التغريبية يريدون دائما إظهار العربية على أنها عائق ولغة تخلف وغيرها مما يعتقدونه، وما هو إلا امتداد لما عانته اللغة العربية أيام الاستعمار الفرنسي منذ دخوله الجزائر 1830، لذا أحاول أن أستعرض بعض القوانين الاستعمارية التي سنتها للوقوف في وجه هذه اللغة التي اعتبرت غريبة في دارها .
قامت فرنسا بسياسة منظمة للقضاء على قوميتنا، بمحاربتها اللغة العربية، لغة ثقافتنا، وعوائدنا، وتاريخنا، وديننا؛ فالمدارس التي كانت تعلّم هذه اللغة وضعت تحت إجراءات شديدة، وحتى الكتاتيب التي يُحَفَّظُ فيها القرآن للناشئة لم تنج من تلك الإجراءات.
فعلى سبيل المثال لا الحصر في 24 ديسمبر 1904 أصدر الحاكم العام قرارا ينص على عدم السماح لأي معلم جزائري أن يفتح مدرسة لتعليم العربية دون الحصول على رخصة من عامل العمالة أو الضباط العسكريين في المناطق العسكرية بشروط أهمها: ألا يدرس تاريخ الجزائر وجغرافيتها والعالم العربي الإسلامي وألا يشرح آيات القرآن التي تتحدث عن الجهاد وأن يخضع ويخلص للإدارة الفرنسية، ولكم أن تتصوروا مدى قساوة هذه الشروط على واقع التعليم آنذاك... يضاف إلى هذا الهجمة الشرسة من لدن المزارعين الفرنسيين بتاريخ 21 مارس 1908م يطالبون بإلغاء التعليم الابتدائي بالنسبة للجزائريين لجلب اليد العاملة الرخيصة وفرصة توطين المهجرين الأوروبيين.
وعندما تبين لفرنسا عجزها التام عن قتل اللغة العربية بإصدار القوانين الاستثنائية الجائرة، وبمطاردة معلميها، وغلق مدارسها، ومصادرة صحافتها.. أصدر وزير المعارف الفرنسي "شوتان" قرارا يوم 8 مارس 1938 الذي اعتبر اللغة العربية في الجزائر لغة أجنبية، ويمنع تعليمها في المدارس، غير مبالي بشيء، ولا حتى بالمواثيق الدولية التي توجب المحافظة على لغة البلاد، وعلى عوائدها، وأخلاقها ومقوماتها.. وفي يوم 22 جويلية 1945 صدر قرار يفرض على كل معلم بالعربية أن يكون متقنا للغة الفرنسية، إذا أراد أن يوظف واعتبر ذلك عائقا في وجه المعلمين الذين لا يتقنون الفرنسية إطلاقا في أغلبهم.
حتى دستور 20 سبتمبر 1947م الذي نص على ترسيم اللغة العربية لم يطبق إطلاقا، وبقي حبرا على ورق، وما نداء مفتشي التعليم الابتدائي الفرنسي الصادر بتاريخ 05 مارس 1954م الذي طالبوا من خلاله بإلغاء إجبارية تعليم العربية في المرحلة الابتدائية حتى لا تعرب الجزائر، وكأن الجزائر أصبحت فرنسية مسيحية لاتينية أوروبية..
يكفيها ـ اللغة العربية ـ ما عانته أيام الاستعمار لتتحمل اليوم تبعات من يريدون تهجين أبنائنا وإبعادهم عن لغتهم، إذا كان الجزائريون في عمومهم يعرفون القراءة والكتابة أيام السنوات الأولى للاحتلال من خلال المقارنة بين واقع التعليم في بلادنا وبلادهم، يقول أحدهم: "إن التعليم كان منتشرا في الجزائر أكثر من بعض المقاطعات في فرنسا"، لذلك لا عجب إذا وجدنا أن كل المسؤولين الفرنسيين ومنذ أن وطئت أقدامهم أرض الجزائر الطاهرة، عملوا على تقويض مقومات الأمة ويتجلى ذلك بوضوح في سلسلة من المراسيم والمناشير ـ السابقة الذكر ـ التي تهدف إلى التضييق على التعليم بصفة عامة مستهدفة اللغة العربية باعتبارها الوعاء الروحي، وأداة اتصال لأفراد المجتمع، وعلى سبيل المثال لا الحصر تم هدم معظم المؤسسات التعليمية، ومتابعة المعلمين والمربين الجزائريين، ومحاربة حركة التعليم العربي الإسلامي، والتضييق عليها، واعتبارها لغة أجنبية في بلادها وبين أهلها وذويها.
بعد كل هذا مازلنا بعد أكثر من نصف قرن نعود للحديث عن تشويه اللغة والتراجع بها خطوات للوراء، نقول لبن غبريط: "إن الأطفال بإمكانهم الحديث باللغة العربية الفصحى حتى قبل السنة الأولى ابتدائي من خلال مشاهدتهم لأشرطة الرسوم المتحركة، إذن فالأمر لا يتعلق بالنضج العقلي والمعرفي للطفل بقدر ما يتعلق بأن العربية ماتزال يتربص بها إلى يومنا هذا".
الشروق
|
|
|
|
|
|