|
|
|
|

العربية تستحق أكثر
أ. عادل إبراهيم حمد
قد يصح الاتهام الموجه للعرب بالفشل في تحقيق وحدة سياسية أو تكامل اقتصادي. لكن الاتهام لا ينفي وجود العوامل التي تبقي على ميزة التواصل بين العرب. فتجعل الأمة مؤهلة للنهوض متى ما زالت المعيقات. أهم الميزات وجود العرب على رقعة جغرافية متصلة من المغرب إلى البحرين. وعل أهم ما يجمع هذه الأمة الممتدة على هذه المساحة الشاسعة اللغة العربية كأقوى رابط ثقافي ووجداني. وهو ما لا يتاح لأمم نجحت في إقامة تجارب عظيمة في التكامل الاقتصادي والتنسيق السياسي كما هو الحال اليوم بين دول الاتحاد الأوروبي.
تتأكد حقيقة الرابط المهم الذي تجسده اللغة عند ملاحظة الانتقال السلس لمواطن عربي من دولة عربية إلى أخرى لا يجد نفسه فيها غريب اللسان. لكنه ما إن يعبر آخر حدود عربية إلا ويجد نفسه قد انتقل إلى غربة نفسية حتى ولو كان يجيد لغة أهل تلك البلاد. فالحديث بغير لغة الأم يجهد المتحدث مهما كانت درجة إجادته. فما بالك بمن لا يتحدث اللغة الأجنبية أو يتلعثم حين يريد التعبير عن نفسه. ويلاحظ أي عربي مدى الارتياح التلقائي وهو يتابع خطاباً في محفل دولي لرئيس الجزائر أو ملك الأردن أو أمير قطر وغيرهم من زعماء العرب. لكن وما إن يأتي دور رئيس أو ملك دولة غير عربية إلا ويحس المتابع العربي بالإجهاد النفسي وهو يتابع الترجمة. ولو كان خطاب المتحدث يعبر عن تضامن مع قضية عربية.
تبدو أهمية وضرورة اللغة كرابط ثقافي ووجداني أكثر وضوحاً بمتابعة دور اللغة في الإنتاج الإبداعي والفكري. حيث ترتفع نسبة قراء العربية كثيراً عن أولئك الذين يقرؤون روايات وأشعاراً وكتباً وبحوثاً بلغات أخرى. وبسبب غنى لغة الضاد أمكن للمبدعين من أبناء أمة العرب نقل المعاني التي يحسونها عبر مواعين اللغة الرحبة. فكان طه حسين ونجيب محفوظ ومحمد جابر الأنصاري ونزار قباني ومحمد عابد الجابري والطيب صالح وبدر شاكر السياب وأمل دنقل وصلاح أحمد إبراهيم امتداداً لتراث زاخر منذ زهير إلى المتنبي والبحتري القائل:
صنت نفسي عما يدنس نفسي .. وترفعت عن جدا كل جبس
وشوقي القائل:
وطني لو شغلت بالخلد عنه .. نازعتني إليه في الخلد نفسي
بالعربية كتب فلاسفة العرب وأطباء العرب وعلماء العرب في عصور ماضية. تأكيداً لخطا الادعاء القائل إن علوم البشرية لا يمكن تداولها إلا باللغة الإنجليزية أو الفرنسية وإن تعريب (المعلومة) يفسدها. فهل يتلقي التلميذ في اليابان -التي بلغت شأواً عظيماً- المعلومة بغير لغة قومه؟
قد يكون البعض قد نفر من العربية بسبب بعض واضعي مناهجها المدرسية فعقدوها بتركيزهم على الإعراب والإحلال والإبدال وقواعد النسب والتصغير، لكن هذا خلل، ورغم أثره المنفر لا يمنع القارئ من الاستمتاع بكنوز اللغة بلا حاجة لمعرفة سبب إبدال الواو ياء في هذا البيت الجميل، وبلا حاجة لمعرفة قاعدة تصغير هذه القافية المدهشة. ويريد متحدث أن يقول الحركة (الطلابية) بدون أن ينتهره من نصب نفسه سادناً بأن يقول (الطالبية) لا الطلابية لأن النسب يكون للمفرد لا للجمع.
يعتمد بعض العرب جلد الذات حين يناقشون وضع العرب بين الأمم المتقدمة، فيسخرون من اهتمام العرب بأشعارهم وتراثهم اللغوي. هذا منهج غير صحيح لتشخيص ومعالجة الحالة. فالأمم المتقدمة لا تهمل أشعارها وآدابها وكأنه شرط لازم للتقدم في مجالات العلوم، بل إن هذه الأمم لا تكتفي بالتبحر في لغاتها فحسب بل تخصص في جامعاتها (كراسي) لعلوم اللغة العربية. وينال بعض علماء العربية من العرب درجات عليا من جامعات في بريطانيا وفرنسا.
العربية تستحق أكثر، لا لأنها في حاجة لمن يخدمها، بل لأن الناطقين بها يكتشفون جواهرها لو أولوها اهتماماً أكبر.
العرب
|
|
|
|
|
|