|
|
|
|

المدرسة الجزائرية ليست ملكية خاصة
أ. بشير شعلال
اللغة العربية من ثوابت الشعب الجزائري ومقدساته ورُمُوزِهِ كالعَلَم الوطني والْوَحْدَة الوطنية بِنَصِّ الدستور. لا يمكنُ أيَّ واحدٍ مهما كان مركزُهُ أن يعبثَ بها. إنَّ دعوة وزيرة التربية إلى استعمال العامية في السنوات الأولى من التعليم الابتدائي قفزةٌ نحو المجهول، لا يقول بهذا عاقل، تريد بها القضاء على ما بقي في المنظومة التربوية من عناصر الحياة، ألاَ تعلمُ الوزيرة تلك القاعدة الذهبية التي تقول: (العلمُ في الصغر كالنقش في الحجر)، ذلك أن ما ينطبع في ذهن التلميذ في سنواته الأولى من الصعب أنْ يفارقَهُ طول حياته: "وينشأُ ناشئُ الفتيان فينـا على ما كانَ عَوَّدَهُ أبُوهُ"
ونَعْنِي بالأب هنا المعلمَ الذي يُعَدُّ المثل الأعلى للتلميذ. وليكنْ في علم السيدة الوزيرة بن غبريط أن المدرسة الجزائرية والتربية الوطنية ليست ملكية خاصة بالوزيرة، تتصرف فيها كما تشاء، تقرر ما تشاء، وتنزع منها ما تشاء، إنها ملك كل الجزائريين والجزائريات، أسندت إليها هذه الأمانة والمسؤولية لتحقق فيها إرادة الشعب من خلال مؤسساته، تكونُ الكلمة الفصل لمؤسسات الدولة، والخبراء والمختصين. ولا يكون الأمر نتيجةَ هَوًى أوْ مِزَاجٍ شخصي. ما كان لابن غبريط أن تُحييَ فكرة التدريس بالعامية، إنها وُلِدَتْ ميتةً لدى أصحابها من غُلاةُ الاستعمار والمستشرقين الحاقدين الْمَوْتُورِينَ وأتباعهم من دعاة التغريب والتخريب. إنها مؤامرة حِيكَتْ خيوطها من وراء البحر، أهدافُها قَطْعُ الطريق في وجه هذه الأمة وقطعها عن جذورها وطُمُوحِها إلى مستقبل أفضل، فشلت قوى الاستدمار رغم كل الوسائل والدسائس، كما أن منطلق هذه الدعوة الْهدَّامَة إيديولوجي سياسي، لا علاقة لها بالتربية والتعليم والتبسيط والتيسير ولُغَةِ الأمِّ كما يزعمون، لأن أطفالَنَا يتابعون ما يقدمه التلفاز من برامج ورسوم متحركة باللغة الفصيحة، ويستوعبونها ويتجاوبون معها. وها نحن نسمع في جزائر الشهداء وزيرة التربية تفكر في إدخال العامية إلى المنظومة التربوية لِتضيفَ محنةً أخرى إلى هذه المنظومة المظلومة التي تنتظر مَنْ يخرجها من هذا المأزق أو على الأقل يوقف انهيارها وضعفها، لكن ابن غبريط
(خطبتْ فكانتْ خَطْبًا لا خطيبًا أُضيفَ إلى مصائبِنا الْعِظام)
لها عقدة مع اللغة العربية، ومَنْ جَهِلَ شيئا عادَاهُ. ولا شك في أنها بعدَ أشهر أو سنة... تغادر الوزارة وتذهبُ لتستريح، وتتركَ لنا كارثةً عواقبُها وخيمة، يكون حصادها مُرًّا على الأمة كلها، لأنَّ مَنْ زرع الشوك يجني الجراح.
العامية التي تريدها بن غبريط أختُ الْعَمَى (أقصد عَمَى الْبَصيرة) وستنتجُ لنا أعْمَى يقودُهُ الضرير.
لقد كشفت هذه الوزيرة أوراقها، تريدها مدرسة عامية في مستوى العامة، في أقصى دركات الرداءة، تتأخر ولا تتقدم، تنتج لنا أجيالا ممسوخة بلا مرجعية، لا هم جزائريون ولا هم جنس آخر، أجيالا متخلفة، بعيدة عن أصولها تتلاعب بها رياح الجهل والتغريب، لو كانت هذه الوزيرة في بلد آخر لقدمت للمحاكمة.
كانت سياسة التعليم في عهد الاستدمار - كما وصفها الأديب الشهيد أحمد رضا حوحو- (قائمة على فلسفة عميقة جِدًّا وهيَ تَعلَّمْ لِتَجْهَلَ). وها هي ابن غبريط تريدُ أن تعيد التعليم إلى عهد الاستعمار أوْ أشد، أليست فكرتُه التي تبناها فيما سماه المدرسة الفرنكو إسلامي. انظر تصريح المجاهد عمار بن عودة عضو لجنة 22 التي فجرت الثورة، الشروق اليومي بتاريخ (10/8/2015).
وهذهِ الْهَرْطَقَة (الْبِدْعَة) تُعَدُّ نوعًا من العنف اللفظي الخطير في رأي علم النفس، لأنها تَسْتَفِزُّ مشاعر ملايين الجزائريين والجزائريات. أما الفئة القليلة التي تتظاهر بتأييدها، فَهُمْ إمَّا من أصحاب المصالح الشخصية الضيقة باعوا ضمائرهم، وإمَّا مُغَفَّلون أو مُعَقَّدون مثلها ضد اللغة العربية (فَمَنْ جهلَ شيئًا عادَاهُ). خُذُوا العبرة من فرنسا التي تَتَمَلَّقُونَ لها وتعتبرونها المثل الأعلى لكم. فكم فيها من أصول وأجناس ولهجات، هل تجدون فيها من يدعو إلى استعمال لغة الأم؟ هذه المغالطة الكبرى التي تنسبونها إلى الأمم المتحدة؟ متى كانت الأمم المتحدة مرجعيةً لنا في التربية؟ هل عدتُمْ إلى العالم تسشومكي الأمريكي من أكبر خبراء علم اللسانيات ورأيِهِ في موضوع تدريس اللغات؟ وهل سمعتم بالأستاذ الجزائري الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح التلمساني عالم اللسانيات الكبير؟ وما هو عَنَّا ببعيد، والذي يعد مرجعًا في الموضوع، يتقن عدة لغات، ويعرف لهجات بعض الشعوب حتى الشعوب الإفريقية.
ويبدو أن الوزيرة لا تميزُ الْجُرأَة من الْوَقَاحَة التي تميزُها عَمَّنْ سبقها من الوزراء الذين تنتقدهم، فالاعتداء على اللغة العربية، والعمل على إبعادها من مختلف المؤسسات التربوية حتى من خارج قطاع التربية ليسا جرأةً، بل هو مخطط لضرب الشعب الجزائري في أهَمِّ مُكَونَاتِهِ. فالعامية هي لغةُ مَنْ لُغَةَ لَهُ، ونحن لدينا لغة القرآن والعلم، فَمَنْ خانَ لغة القرآن فقد خانَ أمانة الشهداء وخان الله ورسوله، وخان الشعب الجزائري، وضربَ الوحدة الوطنية في عُمْقِها؛ ذلك أن اللغة العربية عنوان الوَحدة الوطنية وصمامُ أمانٍ لهذه الوحدة من التَّاءِ إلى التَّاءِ: من تبسة إلى تلمسان، ومن تيزي وزو إلى تمنراست، وبغير اللغة العربية تصبح الوحدة وَخْذَة.
ولْيَعْلَمْ دعاة التغريب والتخريب أن اللغة العربية ليست ملكَ الإسلاميين كما يزعمُ الْفَرَنْكُوفِيلِيُّون، هي ملك الشعب الجزائري كله. وأنا لا أناقش القضية من منطلق حزبي، لأني لستُ متحزبا، بل هي لغة العقل والمنطق ومصلحة البلاد.
ثُمَّ بأيِّ عاميةٍ يكون التدريس؟ مع وجود لهجة عامية خاصة بكل منطقة، إن هذه المؤامرة تهدف إلى تحويل التربية عندنا إلى تَغْبِيَة.
وفي لَهجاتِ بعض مناطق الجزائر، كلماتٌ تعتبر قبيحةً تخدش الحياء في منطقة أخرى.
ولْتَحْذَرِ الوزيرة من اللعب بالنار، وفتحِ المجال لمعركة وهمية تستنفدُ مِنَّا الطاقات والإمكانات في أمور تافهة ثَبَتَ فشلُها في الأساس: ما بُنِيَ على باطل فهو باطل. بلادنا أمام تحديات كبرى. والتربية والتعليم عندنا بحاجة إلى البحث عن أساليب وطرائق ناجعة نافعة لتحسين العملية التّعلِيمية التَّعَلُّمِية، بحاجة إلى إصلاحات جادة يصنعها الخبراء والمختصون، واضعين نصب أعيننا المصالح العليا للوطن، بعيدا عن الإيديولوجيا الْمَقيتَة والمصالح الضيقة والأمزجة الشخصية.
فالمناهج التربوية عندنا بحاجة إلى خطة إصلاح وتحسين وفق مرجعية وطنية تستجيب لِتَحَدِّيَاتِ العصر ومتطلبات الواقع الجزائري، تنتج لنا متعلمًا يكون فاعلا متفاعلا مع الواقع والعصر والعالم، وليس مفعولا به، تكون الكلمة في ذلك لأهل العلم والاختصاص والخبرة، بعيدا عن الجدال العقيم والكلام الإنشائي. حفظَ الله جزائرَنا من شَرِّ الْفِتَن ما ظهرَ منها وما بَطَن.
الشروق
|
|
|
|
|
|