|
|
|
|

أغيثوا لغتنا العربية
أ. حسين سويلم
اختار الله سبحانه وتعالى بحكمته وعلمه، اللغة العربية لغة وبيانا لكتابه الخالد؛ لأن هذه اللغة حظيت بمزايا التعبير والبيان ما لم تحظ به لغة غيرها، ولن يسع كتاب الله غيرها؛ ولو كان في الوجود لغة تفوق اللغة العربية في الكشف عن دقائق البيان وأسرار التعبير، ما جاوزها القرآن إلى غيرها، ولكن نزوله باللغة العربية دليل قاطع على نفي هذا الاحتمال.
فاللغة العربية أسمى اللغات على الإطلاق، ومن الآيات الدالة على ذلك: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) {يوسف آية 2} و(إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) {الزخرف آية 3} و(بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) {الشعراء آية 195}.
نزل القرآن الكريم باللغة العربية، وبلهجة قريش حيث كانت ملتقى للقوافل والتجار من الشمال والجنوب فكانوا يصلون إليها للتجارة، وللطواف حول البيت والتبرك به.
وهذه هي اللغة العربية التي أعلى الله شأنها، وجعلها وعاء لحفظ كتابه العزيز "وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" فصلت 42،41.
نزل القرآن بلغة قريش، وعلى نبي من قريش محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم الذين كانوا يفتخرون بالفصاحة والبيان، وظهرت عندهم المعلقات الشعرية التي كانت تعلق على جدران الكعبة وكانت القبيلة تفتخر إذا ظهر فيها شاعر، فشعره بالنسبة لهم كالسيف يوضع على رقاب أعدائها مدافعا عنها، فالشاعر لقبيلته كالكنز الإستراتيجي عظيم القيمة، ولذلك تحداهم القرآن الذي نزل بلغتهم أن يأتوا بمثله، أو بسورة أو بآية فلم يستطيعوا، وظل العرب على ذلك قرونا، ولكن لسنوات مضت أصبحت اللغة العربية عبئا على أهلها، فكثير منهم يصعب عليهم تعلُّمها والتعبير بألفاظها وبيانها وصورها، وأصبحت ألفاظ الكبار تميل إلى اللهجات المحلية والعبارات الضحلة التي لا تعبِّر عن مكنون اللغة ونفائسها وأسرارها.
لم يقتصر ذلك على الكبار وحدهم، بل تعداه إلى الصبية في مدارسنا، فمنهم من يبدع في الرياضيات أو العلوم أو غيرهما، ويأتي على لغته العربية فلا يستطيع أن يجاريها، أو يتقن مهاراتها قراءة وتحدثا وكتابة، وإذا طلب منه التعبير عن موضوع معين ولو بأسطر معدودة، لم يجد إلى ذلك سبيلا ويقف عاجزا، هكذا وصل حال أبنائنا في مدارسنا اليوم، وبعضهم لا يستطيع أن يكتب اسمه صحيحا.
وزاد اغتيالنا للغة العربية بعد أن أصبح تقييمها مبنيا على التقويم المستمر، فلا اختبارات لها كغيرها من المواد حتى تجبر الطلاب على الاهتمام بها وتعلّم تفاصيلها، وبعد أن طبق تدريس مناهج اللغة العربية التي تسمى (مطوّرة)، اختلطت فيها المهارات بعد أن كانت اللغة تدرس على هيئة كتب واضحة المعالم وأبواب وفصول؛ فهذا كتاب القراءة والمحفوظات، وذاك كتاب القواعد، وثالث كتاب الإملاء، وغير ذلك من فروع اللغة، فكان الطلاب يقرؤون ما يستحق القراءة، ويحفظون قواعد النحو والإملاء، ويطبقونها عن فهم وتدبر.
هذه اللغة التي حوت بين حروفها ما لم تستطع أن تحويه لغة غيرها، وكفى بها شرفا ورفعة أنها حوت كتاب الله القرآن الكريم، فلا يتلى إلا بها، ولا تصح الصلاة من دون تلاوة القرآن بها.
وصدق حافظ إبراهيم حين قال:
رجعت لنفسي فاتهمت حصـاتي *** وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني *** عقمت فلم أجزع لقول عداتـي
ولــدت ولمـا لـم أجــد لعرائســـــي *** رجلا وأكفاء وأدت بناتــــــــي
وسعت كتاب الله لفظا وغايـــة *** وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة *** وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن *** فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
ورغم ذلك كله إلا أن كثيرا من أبنائها لا يستطيع تلاوة سورة الفاتحة، وهذا إن دل، فإنما يدل على تدني المستوى التعليمي للغة العربية في بيوتنا ومدارسنا.
إن لغة بحجم اللغة العربية لغة القرآن لجديرة بوقفات:
الوقفة الأولى: وقفة تأمل نستعيد فيها أمجاد الماضي، ونعيد إليها سابق عهدها من الرفعة والمجد، فعلى الرغم من العدد الكبير للناطقين باللغة العربية، إلا أنها ليست اللغة الأولى في العالم.
أما الوقفة الثانية: فهي في إعادة النظر إلى مناهجنا وطرق تدريسها؛ حتى نحبب المتعلمين في تعلمها، وكي تستطيع الأجيال الحالية إجادتها كما أجادها السابقون وأبدعوا فيها تحدثا وكتابة وتأليفا وبيانا شعرا ونثرا.
والوقفة الثالثة: تكون مع الإعلام الذي لم يرعَ حق اللغة العربية؛ فطغت اللهجات العامية على شاشاته، وأصبح المسؤولون ومَن يستضافون في الإعلام بعيدين كل البعد عن اللغة الصحيحة، حتى الإعلاميين أنفسهم قلّما تجدهم يخرجون من حلقة أو برنامج أو نشرة أخبار دون أخطاء.
اللغة العربية لغتنا جميعا، ونحن مسؤولون عنها، وعلينا أن نعتني بها، وأن تكون هناك حدود لإتقانها ومحاسبة المخطئ في ذلك، بدلا من التركيز على الحاسب واللغة الإنجليزية وحدهما عند التقدم لشغل وظيفة معينة.
هذه عبراتُ قلمٍ أُفْصِحُ بها عن مكنون نفسي تجاه لغتي التي أحبها، والتي قدر الله لي أن أكون معلِّما لها، فكان اختياره لي خيرا، والحمد لله أولا وآخرا.
لها
|
|
|
|
|
|