أ. صلاح حسن رشيد
كتابات العلماء القدامى؛ الدائرة حول كتاب الله تعالى؛ في العصور والأمكنة كافة، وباختلاف العلوم، والفنون، كثرت في الكم على حساب الكيف.
العلوم العربية، والإسلامية ارتبطت بهذا الكتاب الفريد العجيب؛ المليء بمبادئ العلوم، وإرهاصاته؛ فإشاراته العلمية؛ تكفي لكل عصور البشرية؛ فلكل قرنٍ؛ ما يشغله، وما يكتشفه، وما يتوصَّل إليه فهمه وذوقه؛ من خلال المعين القرآني؛ الذي لا تنضب فرائده، ولا عجائبه. وعلى رغم كثرة المؤلفات القيِّمة المستقاة من الرحيق القرآني العذب، فإنَّ النقص من طبائع البشر، ولولا ذلك؛ لَما وجد الأحفاد شيئاً يضيفونه إلى المكتبة القرآنية؛ بمفهومها الشامل.
ولقد أخطأ أجدادنا النحاة عندما قعَّدوا للعربية؛ بالاعتماد على الشعر الجاهلي، وما سمعوه، من النثر والخطابة، ولغة القبائل؛ مقدِّمين السماع على القياس، والإجماع، وفاتهم الاعتماد على القرآن الكريم أولاً؛ ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه؛ فكيف قدَّموا أشعار الجاهليين المليئة بالريب، على كلام ربِّ العالمين؛ الذي هو جنسٌ من كلام العرب؛ لكنه بخلاف ما تعارفوه من كلام، وشعر، ونثر؛ لأنه فوق كلام الإنس والجِن، والجمادات، والطير، والوحوش، والكائنات الأخرى، ونحو النحاة أيضاً.
فلغة القرآن؛ فيها من النحو، واللغة ما فيها من: قواعد، وتراكيب، وبيان، وبديع، ومعانٍ، وما وراء البلاغة من فنون لم تتوصَّل إليها قرائح علماء العربية بعد وفيها ما ليس في لغة العرب؛ من تراكيب عربية الشكل؛ لكنها بإعجازها، وصياغتها القرآنية الخاصة، وسمتها غير المطروق؛ لم يعرفها جهابذة العرب على الإطلاق؛ لأنها فوق قواعدهم التي وضعوها وفق منتهى علمهم، وتصورهم التقعيدي المرسوم.
ولهذا وقع السابقون في مأزق خطير؛ عندما أخضعوا كلام الله لتقعيداتهم القاصرة، وفهمهم المغلوط، وتنظيراتهم المحتملة للصواب والخطأ؛ على رغم ما في بعضها من توفيقٍ، وسداد، وألمعية؛ إلا أن الصورة الكلية لديهم؛ كانت النظر إلى نصوص القرآن، وآياته، من خلال منظارهم للنحو البشري القاصر؛ على أنه الأساس والمعيار والحكم. وشتان بين نحو البشر، ونحو القرآن، أو ما أُسمِّيه أنا (لغة القرآن)؛ التي فيها من نحو العرب، وما ليس في نحو العرب، وهنا الإشكالية الكبرى؛ التي وقع الجميع فيها.
ولذلك؛ نظروا إلى ما يُخالف قواعدهم من فرائد لغة القرآن على أنه يحتمل التأويل، والتخريج، والتعسُّف، والتكلُّف، وراء ألغازٍ، وأحاج، وتخريجات فلسفية، ومنطقية؛ يضرب بعضها عنق بعض؛ للحفاظ على قواعدهم سليمة كما أنزلوها من برج تفكيرهم البشري الضعيف؛ حتى أفسدت ذائقة اللغة العربية وجمالياتها الواسعة. وبدلاً من جعل النحو وسيلة للوصول إلى جماليات العربية، وفهم أسرارها؛ أحال النحاة النحو إلى غايةٍ؛ فهو عندهم فوق البلاغة، ويربو على الفنيات الأدبية، والأسلوبية، التي تكمن وراء الكلام البليغ. ومن ثمَّ؛ أصبح النحو شكلاً فارغاً، لا جوهر له، ولا قيمة من ورائه؛ لأن النحاة اهتموا - فقط - بتدريباتهم العقيمة، ونماذجهم الكليلة، وقواعدهم الجافة؛ وتناسوا أن اللغة؛ لابد أن تحيا في فضاء المجتمع، ولا يمكن أن يحصروها في تقعيداتهم الفارغة؛ المعقدة، والتي هي ضد اللغة، وذائقتها. فاللغة؛ فن، وبلاغة، وأسلوب أدبي رفيع؛ قبل أن تكون قاعدة نحوية؛ بلا مضمون من ورائها. ولذا؛ يعاني الشباب العربي الآن من صعوبة النحو؛ لأن واضعي النحو خلقٌ أبعد ما يكونون عن فهم اللغة العربية؛ لغة المجاز، والطرائق المختلفة في الأداء؛ وفق الجو النفسي، والمعايير الأخرى، بدلاً من البحث عن الصواب النحوي؛ وترك النص اللغوي أسير محاولاتهم الفاشلة؛ لأنهم ليسوا من علماء اللغة الشاعرة؛ كما سمّاها العقاد؛ بمفهومها العام.
ولذلك؛ فما زلتُ أرى أن النحو خادمٌ أمين للغة؛ أي للبلاغة، والفن العالي؛ شرط أن يقوم به نحويٌّ ذو ذائقة أدبية من العيار الثقيل؛ كالجاحظ، وعبد القاهر، وأبو حيان التوحيدي، وأبو حيان الأندلسي، والنفَّري، والحلاج، والمتنبي، والمعري، وشوقي، وحافظ، والعقاد، وطه حسين، والزيات، وجبران، ومي زيادة، وغيرهم. فهؤلاء فلاسفة اللغة، وأكبر العقول العربية التي فهمت أسرارها، وعرفت جواهرها؛ وإلا استحال النحو إلى تمارين رياصية فاسدة، بينها وبين العربية بون بعيد. إذن؛ فالنحو وسيلة أولى؛ لا تغني عن الأهداف التي أنشئت من أجلها القصيدة، أو القصة، أو الرواية، أو التي يشعر بها القارئ، ويفطن إليها، ويهتدي إلى أسرارها بذكائه. فالنص؛ فن بالأساس؛ موشَّى بالنحو.
إذن؛ فالعربية؛ ليست نحواً فقط؛ كما يتصور أصحابنا النحاة؛ فنهر العربية الدافق الزاخر؛ قشرتُه الأولى هي النحو؛ ومحيطه الهائج الهادر هو ما وراء النحو؛ من جماليات اللغة، وإشراقات الفن، وتغريدات الذوق القشيب.
وبعد؛ فإذا كان النحاة عجزوا عن فهم النص الأدبي القديم والحديث؛ كما تحتمله طاقات اللغة العربية، وتتضمنه؛ فهل بوسعهم الإبحار بمجدافهم المعطوب؛ صوب لغة القرآن الكريم؛ درايةً، ومعايشةً، وتذوقاً، وجماليات، وتحليقات حول فنه المعجز؛ الذي حار فيه الجاحظ، وعبد القاهر، والزمخشري، وتمام حسان، وهم من هم في العبقرية والذكاء؟ أو مازال النحويون مصرِّين على أن اللغة هي النحو؟ وأن تعليمها لا يبدأ ولا ينتهي إلا بقواعدهم القاتلة للإبداع، والناقلة لجراثيم الخراب اللغوي، فمتى نرى مجامع اللغة العربية تبحر صوب القرآن الكريم؛ بذائقة اللغة، وليس من خلال نحو النحاة؟ ومتى يتم النظر إلى نحو القرآن؛ بمعزل عن نحو النحاة؟ أي التقعيد للغة القرآن من جديد؛ باتخاذ نحو النحاة وسيلة أولى؛ فما فيه من فوائد؛ وهي كثيرة قطعاً؛ أخذناه، وزدنا عليه ما استخرجناه بفهمنا الجديد من كنوز لغة القرآن؛ وبوضع قواعد أخرى من النص القرآني؛ لإرفاد العربية بروافد التألق، والتلألؤ، والإشعاع؛ وليس الموت السريري في مقابر النحاة.
الحياة