للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي الحادي عشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

بين الفن التشكيلي .. والشعر

صادق القاضي

الرسم بالگلمات
وفّرت الثقافة والتقنية الطباعية الحديثة للشعرية المعاصرة الانفتاح على الفنون البصرية، كالتصوير والتشكيل ، واستئناس أدواتها البنائية، للتعبير والمناورة بشكل مضاعف، من خلال الكلمة والأيقونة معاً، وتمكينا لولوج القصيدة من خلال الصورة والعكس.
ورغم قِدم عبارة “سيمونيدس” ( ت 465 ق. م ): ( الشعر رسم ناطق، والرسم شعر صامت ) (1) في إشارته إلى علاقة فنية جوهرية بين الشعر والرسم،تقوم على التعبير من خلال الصورة، مع اختلاف الأدوات،(2)  إلا أن استثمار علاقة بين الفنين تتم بتكامل الأدوات ، لم يكن متاحاً في الثقافة الشفاهية، ولا عملياً في ثقافة المخطوطات، الطباعة وحدها أتاحت إمكانية هذا التكامل الخلاق بين الكلمة والأيقونة، في واقع فني تداولي تقني، يغدو فيه العمل الشعري مجالا نموذجيا لتداخل الأجناس الفنية، حيث (عززت الصورة الفنية والتعبير اللفظي كل منها الآخر ) (3)، وحيث التشكيل ( مكان آخر للموازي النصّي، يتبادل مع الشعر التأثير والإضاءة ) (4) .
لقد استثمرت الشعرية المعاصرة المقدرات العصرية لهذا التكامل الذي دشنته الطباعة، في صفحة الغلاف، أو في الصفحات الداخلية،التي احتفلت بنسب متفاوتة بإمكانات الفن التشكيلي، والتصوير ، وحضور الصورة التشكيلية أو الفوتوغرافية، المحايثة للنص الشعري،  وفق رؤية مخطّطة وهادفة، لعلاقة تناصية بين اللوحة والنصوص الشعرية، لها حمولاتها الدلالية والإيحائية (5).
تبلغ العلاقة الفنية والشكلية بين الكتابة والرسم أوجّها، في ( النص المجسّد )، أو لنقل (الأيقونة النصية)، حيث تطوَّع الأحرف والكلمات، وتنسّق، وتعالج.. لتشكل على سطح الورقة الشعرية لوحة بصرية لشيء ما، مزهرية، مسجد، طائر ، إنسان، زرافة..، وعندما يكون النص شعرياً، تصبح “ الأيقونة الشعرية “ نتاجا بصريا حقيقيا للرسم بالكلمات.
 عنون نزار قباني إحدى قصائده، والديوان الذي يحتويها، بـ (الرسم بالكلمات)، وهو تعبير مجازي معنيٌ بإبراز براعة الكلمة الشعرية في ركوب الخيال، وتشكيل المعنى من خلال الصور الشعرية المؤثرة، حتى كأن القصيدة لوحة فنية، والشاعر رسام يتذرع إلى التلقي من خلال الصورة، فالاعتماد على التصوير والتشخيص والتشكيل ظاهرة مشتركة بين الشعر والرسم،  الظاهرة التي طرح الشاعر اليوناني (سيمونيدس ) ربما أقدم مقاربة لها بعبارته  الآنفة.
 يومها كان الشعر ناطقاً في شفوية خالصة، ولم تكن الكلمة الشعرية قد انخرطت في الأفق البصري، كما هي اليوم في القصيدة المعاصرة، التي حققت تقارباً أكبر بين الشعر والرسم، من خلال اعتمادها بنائياً وتداولياً، وتحليلياً وجمالياً على حاسة البصرِ، خاصة في بعض تجلياتها التي يصح في وصفها استخدام التعبير (الرسم بالكلمات)، بدلالته الحقيقية البعيدة عن المجاز.
يفترض في الأيقونة النصية والشعرية، أن ينهض الشكل المرئي للقصيدة، بدور حيوي وأساسي في تشخيص المعنى وتجسيده، وتجسيمه، ورفد الدلالة واستنفارها، واستقطاب الأنظار وجذب الاهتمام، وتكييف التلقي، واستثارة التأويل، وفي سياقها يتكامل ويتداخل فن الشعر وفن التشكيل، جمالياً ودلالياً، وتصبح للدلالة رافدان، رافد اللغة، ورافد الصورة، حيث تكامل الدلالة اللغوية والأيقونية يضاعف مبادىء وقيم البناء والخصائص الجمالية، واستغواء التلقي الشعري.
نظراً لمرونة الخط العربي، وتفاني الخطاطين في التعبير من خلاله، واستثمار قابليته للتشكيل، والتشكل بأشكال بديعة، كأن تكتب العبارة على شكل شجرة، والآية على شكل مسجد .. ظهرت الأيقونة النصية مبكراً في التراث العربي، وكذلك الأيقونة الشعرية، كما في المشجرات الأندلسية «كتابة القصيدة على شكل شجرة» بما يعكس البيئة الشعرية للأندلس، كما تميز الشعراء القرسطيون ببراعتهم الفائقة بالكتابة البصرية التصويرية التي تمخضت عن أشكال وفيرة وطريفة لكتابة القصيدة على شكل دوائر متداخلة ومتقاطعة، وأشكال هندسية أخرى، تمكِّن من قراءة النص من زوايا مختلفة لقراءات مختلفة، عبر تقنيات أسلوبية بصرية للبديع الشكلي، تجعلهم  روّاداً للشعر المجسد، وإن لم يدل ذلك في معظمه على أكثر من براعة التكلف، ومهارة النظم والتشكيل.  
وعلى كلٍ، فقد ظهر الشعر المجسد في الآداب الغربية في عصر النهضة، والأقرب أنهم تأثروا بالظاهرة في الشعر العربي، لا كما يقول ( أو نج) بالأدب الفارسي، الذي وجدت فيه الظاهرة في القرن الخامس الميلادي (6)، فكتب الشاعر الغربي ( رابليه ) أغنية على شكل زجاجة، أهداها لـ”باخوس” (إله الخمر) لا شكل يفضله «باخوس» أكثر من زجاجة النبيذ” ، كما كتب قصيدة حزينة أحرفها منسابة كالدموع (7)، ولأصحاب الشعر المجسد طريقتهم في (تشكيل أبياتهم بصور هندسية أو رياضية .. بحيث يشارك أسلوب طباعتها في الإيحاء بدلالتها )(8)، ومن أشهر ممثلي الشعر المجسد ( الأيقونة الشعرية ) “أرنست باندال” بقصيدته ( القُبلة )، التي كتبها على شكل (قُبلة)(9).
إن اعتماد مصطلح ( الأيقونة الشعرية )، لا ( الشعر الأيقوني ) في الدلالة على هذه الممارسة، يُراعي أولوية الرسم على اللغة، في بناء النص الشعري، في تلك الممارسة الشعرية التقليدية لثقافة المخطوطات، الأولوية التي تفسر ركاكة معظم تلك القصائد المدوّرة والهندسية والتشكيلية القديمة، وخلو نماذجها من القيمة الشعرية والجمال التعبيري، والخيال ِ، والتصوير الشعري اللغوي (10).
لقد تخلى الشعر المعاصر عن مجال الافتعال والبراعة الزائفة البصرية التقليدية تلك، بقدر اهتمامه بتقنيات بصرية معاصرة ، تمحور لأولية اللغة الشعرية، والإبداع الشعري، ولا تقوم على حساب شعريته، في ثقافته الطباعية التي شيأت الكلمة في الفضاء البصري، ودشنت أهمية جوهرية لجغرافية النص، وفضاء الكتابة، والإستراتيجية البصرية للكتابة،حيث يكون لشكل الكلمة، وملامحها المكانية، شعريتهما بجانب الشعرية اللغوية للكلمة، وحيث تعبر القصيدة عن جانب من شعريتها ودلالتها من معادلات الفراغ والامتلاء والبياض والسواد.. فتوجه التشكيل الشعري إلى خيارات توزيع الكلمات ونظام الطباعة .. تجسيداً للمعنى ، وتشكيلاً للإيحاءات البصرية والمعاني الإشارية.. وهذا يعزز أهمية الشكل البصري في الشعر المعاصر، وبما يعكس تأثره بالتيارات الأدبية والعالمية وفلسفاتها الفنية، كالسريالية والدادائية والتجريدية ..، كما يشير لمعاصرته الزمنية والثقافية، في عصر الصورة، فالصورة في هذا الشعر البصري، ،كما يقول صلاح فضل : (بأبعادها الثلاثة، من مادة، وشكل ِ، ودلالة، هي التي تمثل وحدته البنائية، وتخلق واقعه الجديد)(11).
وعموما، قضت الطباعة على إيجابيات وسلبيات المجال الخطي لعصر المخطوطات، ليس كإمكانية، ولكن كتجاوز، فللطباعة الآلية، والرقمية بشكل خاص، إمكانات هائلة في تشكيل البعد البصري الإيحائي للأحرف والكلمات والنص إجمالاً، لكن الشعرية الحديثة والمعاصرة بقدر ما تأثرت بالمطلب السريالي والدادائي والتجريدي..، التيارات الفاعلة في هذا المجال، بقدر ما تجاوزت الافتعالات الشكلية الجوفاء للممارسات القرسطية، إلى استثمار وإعمال واقعها البصري التقني الحديث.
ومع ذلك، يمكن ملاحظة حضور الأيقونة الشعرية، وإن بشكل محدود، في الشعر المعاصر، وإلى ذلك دعى “محمد بنيس” (بالتنظير والتطبيق إلى استثمار المكان في القصيدة استثماراً بنائياً، وذلك باستثمار إمكانات الخط المغربي)، على غرار ما فعله الشعراء الأسلاف المغاربة، كما اعتبر الشاعر “عبدالله راجح” ذلك : (بمثابة زواج شعري بين النص الشعري والفنون التشكيلية ) (12)، فكتب بعض شعراء المعاصرة، أو رسموا أيقونات شعرية، وهي وإن كانت  تجري على أرضية فلسفية مغايرة، للثقافة التقليدية، ويحمل بعضها شيئا من الجدة والاختلاف، لكنها تتضمن ما تتضمنه المزاوجة بين الشعر  والتشكيل من ملامح وتداعيات تشبه نظائرها التقليدية، ويمكن للمطلع على  نماذجها (13) ملاحظة أولوية وأسبقية الصورة على اللغة، في بنائها، بما يفسر محدودية الإبداع، وتكلف البنية،  وندرة القيمة الشعرية لمعظم هذه التجارب، ويؤكد بوضوح على أن تطويع الشعر للرسم يتم عادة على حساب الشعر.
* * *

(Endnotes)
1ـ قصيدة وصورة , الشعر والتصوير عبر العصور , د. عبدالغفار مكاوي , سلسلة عالم المعرفة , المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب , الكويت،   عدد 119 , نوفمبر , 1987م . ص13
2ـ  يرى سارتر أن الفنون قد تتبادل التأثير، لكنه يرفض القول بتناظر الفنون ، وتشابهها الجوهري، ويرى أن الفرق بين الأدب والرسم لا يتوقف على الشكل فحسب، بل يمتد إلى المادة أيضا،إذ يرى أن الأشكال والألوان والألحان.. لا تعبر عن معاني خارجها، كما يفعل الأدب بطريقته،  انظر: ما الأدب، جان بول سارتر، ترجمة د.محمد غنيمي هلال، ص15، وما بعدها.
3ـ الشفاهية والكتابية, والتر  ج . أو نج , ترجمة د. حسن البنا عزالدين، ص231
4ـ الخطاب الموازي للقصيدة العربية المعاصرة , نبيل منصر، ص92
5ـ من الملاحظ أن نسبة حضور اللوحة التشكيلية الانطباعية المباشرة على الغلاف الشعري أقل بكثير منها على غلاف الرواية والمجموعات القصصية، كما على أغلفة أعمال نجيب محفوظ، لأهمية اللوحة الانطباعية  هنا في إعطاء رسائل مسبقة عن ملامح الشخوص وسمات المكان إطار الحدث، في مقابل أن نسبة حضور الصورة الشخصية ، وكذلك اللوحة التشكيلية الموغلة في الانزياح والتجريب.. على الأغلفة الشعرية أكثر منها على أغلفة الرواية، لأسباب قد تتعلق ببروز الفردية في الإبداع الشعري، واحتفاء الكتابة الشعرية بالإبدالات والانزياحات..
6ـ انظر: والتر  ج . أونج ,الشفاهية والكتابية ,  ترجمة د/ حسن البنا عزالدين، ص233
7ـ المصدر السابق،ص233
8ـ عبدالغفار مكاوي،قصيدة وصورة , الشعر والتصوير عبر العصور , ص121
9ـ انظر :المصدر السابق،ص276
10ـ للاطلاع على نماذج الأشكال الهندسية والدوائر الشعرية، في التراث العربي( انظر: محمد نجيب التلاوي، القصيدة التشكيلية في الشعر العربي) ص376، 383
11ـ صلاح فضل , قراءة الصورة , مكتبة الأسرة , القاهرة , 1998م . ص13
12ـ محمد نجيب التلاوي، القصيدة التشكيلية في الشعر العربي ، ص271
13ـ لا يعني ذلك ندرة هذه المناورات، أو خلو الشعرية العربية المعاصرة منها، الظاهرة التي تقصي نماذجها وأبعادها وفلسفتها الدكتور محمد الصفراني ، في مساحة واسعة من كتابه(التشكيل البصري في الشعر العربي الحديث)، وكذلك للاطلاع على نماذج منها في الشعر العربي المعاصر : انظر: ، محمد نجيب التلاوي، القصيدة التشكيلية في الشعر العربي ،مصدر سابق،ص 392، 363،394 ،404.

الجمهورية نت

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية