|
|
|
|

التدافع بين المد الفرنكفوني ودعاة حماية اللغة العربية
د. محمد حومين
وجهت وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني مذكرة إلى مدراء الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين،تخبرهم بقرار الوزارة الشروع ابتداء من الدخول المدرسي المقبل 2016/2017 تدريس مادتي الرياضيات والعلوم الفيزيائية باللغة الفرنسية ، وفي إطار جس النبض و”تعليم لحسانة في رؤوس اليتامى”، تركت الوزارة للأكاديميات صلاحية الشروع في ذلك بداية من الدخول المدرسي الحالي، رابطة ذلك “بتوفر الشروط الضرورية”،بينما يكون التعميم إلزاميا ابتداء من الموسم المقبل في المؤسسات العمومية والخاصة، وهكذا يتجرأ المخزن ويقرر الحسم في لغة التدريس بمفرده ضاربا عرض الحائط بالمقاربة التشاركية، وتمرير مخطط التغريب بالقوة، وإعلان بداية نهاية التعريب في وقت كان الجميع ينتظر مقاربة إشكالية اختلالات المنظومة التعليمية خصوصا المتعلقة بتكامل المواد التعليمية وتجانسها عن طريق تعريب الدراسة في الجامعات والمعاهد العليا ، ولقد استبشر التيار العروبي خيرا بعد تصاعد الدعوات المطالبة بالتخلي عن لغة المستعمر بعد التوتر الذي شاب العلاقات مع فرنسا، لكن يظهر أن الامر تعلق بسحابة صيف سرعان ما انقشعت…إنني أشعر بالحرج والوجل والغضب وأنا أقارب مثل هذه المواضيع الشائكة والمعقدة، والتي يجب أن يتصدى لها أصحاب مكة وهم أدرى بشعابها، لأنني من أصول إفريقية ولست عربيا، لهذا لا أريد أن أظهر “ملكيا أكثر من الملك”، لكن الاعتقاد الديني و العيش والتاريخ والمصاهرة مع العرب، عوامل تدفع نحو تبني قضاياهم، ومن عاشر قوما أربعين يوما أصبح منهم، وانطلاقا من مواقفنا المبدئية ، فكل قضايا المدرسة العمومية هي قضايانا ،عرفانا منا لهذه المدرسة بفضلها علينا وعلى أبنائنا…إن الامر يتعلق باللغة الوطنية التي يجعله الدستور في مقدمة اللغات الآخرى التي تشكل الهوية الوطنية، إن اللغة ليست بريئة وأنها المقوم الاساسي في بلورة الشخصية الوطنية والشعور الوطني الذي يعبر عن الانتماء على شيء يسمى ” الوطن”، وقد لاحظ “هومبولت” الفيلسوف والرياضي الألماني تطابق اللغة عندما يقول: “إن اللغة تطابق العقلية الوطنية”، ويسانده في ذلك اللغوي السويسري الكبير “دي سوسير” عندما يقول: “إن اللغة تشبه وجهي الورقة، الفكر وجهها واللفظ ظهرها، ولا يمكن أن نقطع الوجه دون أن نقطع الظهر في نفس الوقت، وكذلك الأمر، فاللغة حيث لا يمكن أن نعزل اللفظ عن الفكرة والفكرة عن اللفظ”، ومن هاتين النظريتين يمكن أن نستخلص دور اللغة الأساسي في تكوين العقل بصفة عامة والعقلية الوطنية بصفة خاصة، فعبقرية اللغة الوطنية تخلق عبقرية العقلية الوطنية والطرق الناجعة لتطوير المعرفة بمعناها العريض…لقد ادرك زعماء الحركة الوطنية بمختلف توجهاتهم مبكرا هذه الإشكالية المفصلية، فاغتنموا تعيين فرنسا “إريك لابون” مقيما عاما بالمغرب ،والمعروف بأنه المقيم العام الأكثر ليبرالية من ضمن كل نظرائه الذين تعاقبوا على السلطة في فترة الحماية ، وحاولوا استغلال الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي دشنتها فرنسا ،وأسسوا”اللجنة الملكية لإصلاح التعليم” إبان الحماية، عقب الحرب العالمية الثانية، ولكنها فشلت في مهمتها خاصة بعد أن عدل الفرنسيون عن سياسة “التفتح” ، مما دفع بالحركة الوطنية إلى الانتقال من المطالبة بالإصلاحات إلى المطالبة بالاستقلال،وقد حرص المغفور له محمد بن يوسف على بعث هذه اللجنة تحت نفس الاسم، وعقدت أول اجتماع لها يوم 28 سبتمبر 1957، ليؤكد الراحل على تبات المواقف واستمراريتها .لقد أقرت اللجنة الملكية المبادئ الأربعة كأساس لإستراتيجية التعليم في المغرب وهي: التعميم والتوحيد والتعريب ومغربة الأطر، وهي مبادئ مرتبطة لا تقبل العزل ولا الفصل، لقد أصبحت في قلب الفكر الوطني المغربي وبرنامجه النضالي، وبالتالي كان الدفاع عنها يتم بخطاب “الهوية” الذي لا يقبل المناقشة، الهوية كما صنعها الماضي وكما يجب أن تكون في المستقبل،لكن يظهر إن خطاب الهوية بهذا المعنى الوطني لم يعد يمارس نفس التأثير الذي كان له قبل عقد أو عقدين من السنين ، إنها العولمة وما أدراك ما العولمة…لقد كسروا رؤوسنا بالحديث عن اللغة العربية وأهميتها وتموقعها في حياتنا إلا أن هذا التبجيل لا يتجاوز مستوى الخطاب، حيث ينادي بها البعض في الظاهر ويعمل في “الباطن” في اتجاه آخر،وكم من المسؤولين عن التعليم في بلادنا سلكوا هذا المسلك، وأن جميع الاصلاحات التي عرفتها البلاد خضعت بشكل أو بآخر للتجادبات والاستقطابات الداخلية والخارجية، وحين نعود للتاريخ نجد الكثير من الامثلة، لقد أقرت اللجنة الملكية الثانية ل1957 تعريب التعليم الابتدائي ،بينما قرر التصميم الخماسي الأول (60- 64) توقف تعريب المواد العلمية في السلك الابتدائي بعد عامين من إقراره في خضم المفاوضات الأوروـ مغربية و التي توجت بالاتفاقية التجارية لسنة 1969، وعرف المخطط الخماسي الثاني تعريب مادتي الفلسفة والاجتماعيات، إلى أن جاء مشروع “بنهيمة “للدمار الشامل في أبريل 1966 الذي تم من خلاله العودة إلى الازدواجية اللغوية في التعليم الابتدائي و توقف تعريب مواد العلوم و الحساب و برنامج المغربة ، ومع مشروع إصلاح 1980 برز التدافع بين المد الفرنكفوني ودعاة حماية اللغة العربية من الامتهان و التهميش، وكرست وثيقة المبادئ الأساسية (94- 95) الحس الوطني الصادق بدعوتها لترسيخ القيم الإسلامية والاعتناء بتحفيظ القرآن الكريم و اعتماد اللغة العربية ،اللغة الرسمية للبلاد،محور التعليم و تعريب جميع مجالات الحياة و تعليم الأمازيغية، ونظرا لثورية هذه المبادئ والتوصيات ومسها لمصالح المستفيدين من الوضع القائم ،تم إجهاضها وتعويض اللجنة التي دعت إليها بلجنة مصغرة اشتغلت حسب توجيهات المادة 39 من تقرير البنك الدولي لسنة 1995، وهي التي ستضع فيما بعد”مشروع الميثاق الوطني للتربية التكوين ” وعشريته الضائعة ، وعجزه عن الحسم في ملف اللغة، واعتبر الإشكال سياسيا أكثر منه فكريا أو فلسفيا، ولن أتطرق للمخطط الاستعجالي وأمواله المنهوبة وإستراتيجية 2015 ـ 2030 ورافعاتها وأحلامها الوردية المتعلقة بتكافئ الفرص وجودة التعليم، لآن الامر يتعلق بالتاريخ المعاصر والمستقبلي .إن المتتبعين لعودة خطاب تدريس بعض المواد العلمية باللغة الفرنسية لم يفاجؤوا أبدا بذلك ،لأنهم يعرفون أن “مسألة تعريب التعليم” لم تكن أبدا اختيارا استراتيجيا بل تكتيكا مرحلي تمليه موازين القوى داخل البلاد في علاقتها بالمحيط الخارجي، إن الوضع الصعب للعالم العربي الذي أصبح مجالا مفتوحا أمام القوى الاستعمارية تعبث فيه كما تشاء ،وتراجع جبهة التصدي والممانعة ولجوء التيار القومجي للغرب يتسول اللجوء السياسي والاقتصادي،كلها عوامل نكسة وشد إلى الوراء، إنها الفترة، فها هي أرض الكنانة تحتضر وقلب العروبة النابض على شافة السكتة القلبية، وتغول الفرس على بلاد الرافدين ، وسقط اليمن تحت هيمنة ال الحوتي،وانفتحت ليبيا العظمى على المجهول ، ولبنان يداوي الجروح منفردا ،ولا حول ولا قوة إلا بالله، وعندنا في المغرب فالتيار الفرنكفوني لم يكن أبدا مخلصا لقضية التعريب في البلاد ،ففي 1961 نظم أول مؤتمر عربي للتعريب بالرباط لم تطبق توصياته، و في 1962 تمت إقالة مدير معهد الدراسات حول التعريب “أحمد الأخضر غزال” الذي وضع منهجا جديدا يضمن نجاح برنامج التعريب بمختلف الأسلاك التعليمية، والذي جاهد ،رحمه الله، من أجل إعلاء شأن اللغة العربية، وتنميتها، وتطوير أدواتها، وجعلها قادرة في كتابتها ونحوها ومصطلحاتها على الاستجابة لمتطلبات العلوم والتكنولوجيا لتحقيق أهداف التنمية البشرية في وطننا العربي، كما استقال المدير العام المساعد للوزارة “إدريس الكتاني” احتجاجا على سياسة الازدواجية التي تتشبث بها الدولة و التي اعتبرها الوطنيون “خطرا على مستقبل التعليم”، واعترف وزير التعليم آنذاك في 1977 “عز الدين العراقي” بصحة هذا القول، وقبل صدور تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي واستراتيجيته، وقع عدد من العلماء والمثقفين ورجال السياسة” نداء من أجل اللغة العربية” أكدوا من خلاله أن حضور اللغة العربية في المغرب حضور ملازم لمفاهيم الانتماء والسيادة،وأن أي اعتداء على مكانتها الرمزية والمادية، هو اعتداء على السيادة الوطنية، يوازي في الجرم الاعتداء على الثوابت السياسية والعقائدية للمغاربة.كما نثمن الموقف الشجاع والمستمر لمؤسسة الائتلاف الوطني لحماية اللغة العربية. واهم من يظن أن اللغة العربية غير صالحة لتدريس العلوم، فكل اللغات صالحة لذلك بدون استثناء مثل الصينية والعبرية والروسية، ويبقى التفاوت في مدى تطويع أهل اللغة للغتهم، والتطويع لا يمكن أن يكون بممارسة اللغة في لغة أخرى بل في اللغة المراد تطويعها، والمسألة المطروحة من الناحية العلمية هي تقوية اللغة العربية واللغات الأجنبية،واللغة الإنجليزية أصبحت اليوم ضرورة من ضرورات العصر، ليس بالنسبة لنا فقط، بل وبالنسبة للفرنسيين أنفسهم، كما أن الجوار والمصالح المشتركة والتاريخ يفرض استعمال اللغة الفرنسية والأسبانية في مدارسنا إلى جانب الإنجليزية، والاتجاه العام يجب أن يكون تكريس الإنجليزية كلغة علمية أولى، لأنها اليوم كذلك على مستوى الاستعمال العالمي ومستوى العلم والتقنية،ولقد تم التوافق في بداية أشغال المجلس الاعلى للتعليم حول إمكانية تجريب اللغة الإنجليزية، وجعلها لغة ثانية قبل أن تتحرك السياسة والخلفيات الثقافية لتدافع عن اللغة الفرنسية وعن مكانتها في منظومتنا التعليمية. أما “نكتة” الدارجة وإمكانية جعلها لغة للتدريس في الصفوف الابتدائية فتلك حكاية أخرى،إن قرار الوزارة الأحادي يدفعنا للخوف من ضياع أجيال بكاملها وتعرضها للتغريب،ولا نخاف على اللغة العربية،لأنها باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لأنها لغة القرآن الكريم ، وربنا يقول”إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” صدق الله العظيم
وجودة
|
|
|
|
|
|