أ. فريدة النقاش
انتشرت ظاهرة استخدام اللغات الأجنبية، والإنجليزية على نحو خاص في أسماء الشركات والمحلات وصولا إلى أصغر الدكاكين في الأحياء الشعبية والحواري وحتى القرى، ويشير هذا الاستخدام الواسع إلى عقلية سائدة ترسخت ملامحها في اللاوعي الجمعي عبر عقود من التبعية، إذ تولد ما يشابه اليقين بأن أوروبا وأميركا وبلاد الغرب عامة هي أفضل منا، وأن هذه الأفضلية وجدت - بيولوجيا - منذ بدء الخليقة، وهي الفكرة التي أطلقتها ورسختها علوم الاستشراق الاستعماري التي قامت على مبدأ المركزية الأوروبية، وقسمت الجنس البشري بين العقل للغرب والقلب للشرق، وهي الفكرة التي تناسخت حتى يومنا هذا لنطلق صيحة صراع الحضارات، وقد اشتغل عليها - بوعي وبدون وعي - عشرات من الكتاب والشعراء والمفكرين والفنانين، ليعكسوا النزعة العنصرية والاستعلاء الاستعماري على الشعوب التي جرى غزو بلدانها، وقد ارتبط هذا الغزو كما هو معروف تاريخيا بفكرة انتشال هذه الشعوب من حالة البربرية إلى الحضارة والتقدم، مع نهب ثرواتها باسم هذه الرسالة.
ولعل عملية الاجتثاث الوحشية لحضارة الهنود فى القارة الأميركية أن تكون أبرز الأدلة على التطبيق العملي لهذه المنظومة الفكرية العنصرية.
فإذا كانت بعض عناصر هذه المنظومة قد تسللت إلى لا وعي الشعوب التي جرى استعمار بلدانها - وبلادنا ضمنها، فماذا عن العناصر الأخرى التي أدت إلى ما يشابه الاستعلاء على اللغة العربية.
يقودنا هذا السؤال إلى نظام التعليم الذي يتفق الجميع على تدهوره المتواصل، ويكفي أن مصر قد جاءت في الموقع قبل الأخير فى مستوى جودة التعليم طبقا للأمم المتحدة.
ويقودنا أي تحليل للخارطة التعليمية في البلاد إلى ضرورة الوصول إلى هذه النتيجة سواء فيما يتعلق بتدهور التعليم، أو بتراجع اللغة العربية معرفة واستخداما.
تنتشر المدارس والجامعات الأجنبية في البلاد، وهي وإن كانت تلتزم - أحيانا - بمناهج تعليم اللغة العربية فإن كل المواد الأخرى يجري تدريسها باللغة الإنجليزية حتى في الجامعة الألمانية، باعتبار أن الإنجليزية هى اللغة العالمية الآن، وهي وعاء العلم والمعرفة الحديثة التي تنمو بسرعة الضوء، بينما تغرق اللغة العربية فى علوم الماضي، إذ ترتبط ارتباطا عضويا بالدين، ويرفض القائمون على أمر المؤسسات الدينية الغارقون في التقليد والرافضون للتجديد، أي تطوير لقواعد اللغة ونحوها حتى تتواكب مع العلم والعصر، وهم مرتاحون للقول السائد بأنه طالما قُرأ القرآن فإن اللغة العربية سوف تبقى بخير، ولا يقلقهم أبداً وضع هذه الأجيال التي تخرج تباعا من التعليم سواء الوطني أو الأجنبي وهي لا تعرف لغتها القومية، بل وتباهى بعضهم بهذا "الجهل" باعتباره علامة تفوق، فضلا عن تطلعهم للهجرة.
ويزيد الطين بلة - كما يقال - تلك اللغة التى يستخدمها الإعلام، والأخطاء الكبيرة التى يقع فيها بعض الإعلاميين حتى وهم يقرأون نشرات الأخبار، وهى أخطاء تفضح كل من مستوى التعليم ومستوى التكوين والتأهيل.
تدعونا هذه الحقائق والوقائع إلى استدعاء دور حكومى وإدارى صارم يلزم بداية كل أصحاب الشركات والمكاتب العاملة فى مصر إلى استخدام اللغة العربية فى كتابة أسمائها حتى لو كانت فروعا لشركات أجنبية.
وستكون هذه بداية متواضعة حتى يتسنى لنا إعادة النظر فى المنظومة التعليمية برمتها، لا فحسب دفاعا عن اللغة العربية، وإنما دفاعا عن مستقبل البلاد ذاته.
وغنى عن البيان أن مثل هذه المهمة القومية دفاعا عن اللغة العربية لا يمكن إنجازها على أفضل نحو إلا فى ظل مناخ تسود فيه الحريات بحيث يمكن توجيه النقد للمؤسسة الدينية، وفتح الباب أمام الفكر النقدى وتكوين العقل المستنير، فمثل هذا الفكر والعقل الذى يمارسه بحرية يفتحان الأبواب أمام الأجيال الجديدة لإعادة النظر فى موقفها من اللغة العربية، وهو الموقف الذى تكون تاريخيا بفعل كل العوامل السابق الإشارة إليها، وهى العوامل التى ألقت ستارا معتما على كل ما قدمته الثقافة العربية الإسلامية للعالم فى عصور ازدهارها وعقلانيتها وانفتاحها على الآخرين، مما يدعونا إلى الفخر بثقافتنا لا الخجل منها.
المدى