د. رامي أبو شهاب
ثمة عدد من الأنساق الثّقافيّة التي تسهم في تراجع الأداء اللغوي للعربية، وهذا ربما يعود إلى فرضيةٍ قوامها أن تعلّم العربية واستقبالها يرتبط بالتمثيل الحضاري والثقافي للغة عينها.
وبما أن اللغة العربية ترتبط بعدد من العوامل، ومنها العامل القومي بالتّضافر، مع العامل الديني المُتمثل بالإسلام، غير أن الإشكالية تكمن بانهدام التّصورات الحضاريّة للعربية، وتمثيلها في مخيال المجتمع العربي في الوقت الحاضر، عبر خروقات تشكّل مجتمعةً ممارسات خطابية سلبية تشمل الأسرة والمدرسة والشّارع، والإعلام والمجتمع ومؤسسات الدولة عامة. لقد أمسى هذا الوضع واقعاً نتيجة الانتكاس الحضاري الذي يشهده العالم العربي، بالتوازي مع وجود مشكلات تتصل ببناء المحتوى، والمناهج التعليمية، وطرائق التعلم، ما يحتم البحث عن مقاربة ثقافية للتعاطي مع العربية، شريطة أن تنهض على تفعيل البُعد الحضاري للغة العربية بوصفها لغة تنتمي إلى ثقافة إيجابية، تحتمل قدراً من الجمالي والإنساني، بهدف إحداث تحول في استقبال اللغة التي باتت تعيش حالة اغتراب لدى الناطقين بها؛ ولهذا ينبغي تبني ممارسة تنهض على تبني الأنساق الثقافية (الحضارية) على حساب الأنساق الأداتية المجردة، أو الموجهة أيديولوجياً، التي تتسبب بنفور قطاعات كثيرة من المتعلمين والمتعاملين مع اللغة على اختلاف مستوياتهم الثقافية.
نشرت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية تقريراً يشير إلى أن اللغة العربية سوف تتخذ موقعاً متميزاً في المستقبل القريب، ولاسيما في ما يتعلق بالحصول على وظائف، حيث لا يتقدمها في هذا المجال سوى الإنكليزية والإسبانية، لا شك أن التقرير ينطوي على إشارات مهمة، تتعلق بأهمية العربية حضارياً وثقافياً واقتصادياً، ضمن ما بات يعرف بالجغرافيا الثقافية (كرانغ، 2005، ص15) التي تتأسس على مفاهيم التّنوع والتّباين والارتحال، فالثّقافة، ومن ضمنها اللغة التي تتعرض لدورات من الارتقاء، وأحيانا الطفرات، حيث لا يمكن التكهن بما سوف تؤول إليه قوة أو ضعفاً (كرانغ، ص16).
ولعل الحضور الطّاغي للعربية (حضارياً) يُعلل بعدة عوامل، فالعربية لغة الإسلام، فضلاً عن كونها اللغة القومية للعالم العربي، الذي ينطوي على مدخرات تتمثل بالمقدرات الاقتصادية، بموازاة وجود موروث تاريخي، ثقافياً وحضارياً، فالعربية مؤهلة لدورٍ أكثر عمقاً في صوغ المشهد الإنساني لعالمنا المعاصر ضمن ما بات يعرف بصيغ ما بعد الحداثة والعولمة وآثارها، ويتمثل ذلك بالارتحال اللغوي للعربية، خاصة مع لجوء وانتقال مجاميع كبيرة من متكلمي العربية إلى البلدان الغربية، وغيرها في العالم ضمن موجات لا تنتهي من اللجوء والنزوح، مما يعني تغير في الخريطة اللغوية للعالم، بيد أن ذلك يأتي بالتجاور مع ما يشهده عالمنا العربي في الزمن الحاضر من انتكاسات تتمثل باقتتال داخلي وحروب، تشمل ثلث، إن لم يكن نصف العالم العربي، مع ما يحتمله هذا من تداعيات ثقافية، تتمثل بانبعاث تمثيلات سلبية للغة بوصفها نتاج عالم عنيف. ولعل ما سبق من شأنه أن يسهم في خلق سياقات حضارية وثقافية للعربية ينبغي أن نتلمّسها، ونفهم آلية عملها، فالسياقات الداعمة للغة العربية بوصفها لغة مركزية واضحة، ومبررة جداً، ما يدفع نفي ضالتها أو هامشيتها في المشهد المعاصر، وهذا يعد دافعاً لإعادة النظر في رؤيتنا للغة العربية، وطرائق تعليمها وتعلّمها.
لا شك في أن السياقات التي أتينا على ذكرها تجعل العربية مؤهلة لأن تلعب أدواراً مهمة في المستقبل، وتحديداً في ظل وجود أو تهيؤ للظروف التي تتيح ذلك، ولكن هذا مرهون بقدرتنا على تفعيل القيم الإيجابية على حساب القيم السلبية، من منطلق أن العربية لغة تاريخية، تحتمل مخزوناً هائلاً من القيم الحضارية، إذ لا بد من توفر منطلقات حضارية ثقافية لتعلم اللغة العربية، غير أنه ينبغي بداية تحديد القيمة الدلالية للحضارة التي تعد مفهوما إشكالياً ومعقداً، ومع ذلك، فهي توصف بأنها مجال متقدم من أنشطة المجتمع البشري الذي يشمل قطاعات متعددة، ومنها الثّقافة والعلوم والصناعة، في حين أن معجم «وبستر» قد بدا أكثر اقتراباً من الدور الوظيفي، حيث وصف الحضارة بأنها نمط وسلوك مميز، والحضارة في الآن ذاته تعد شرطاً للارتقاء، حيث ينظر لها على أنها الظّروف التي تتضافر لتحقيق التقدم والارتقاء في مجال ما، حتى يتمكن البشر من تطوير طرقهم ووسائلهم، بهدف تنظيم مجتمعاتهم والاهتمام بها في عدد من المجالات، فالحضارة تعني بإيجاز «المجتمع المنظم بعناية». وكي يستقيم التنظيم بوصفه مسلكاً بشرياً لا بد للغة بوصفها أداة للتواصل والتعبير والتأمل، فاللغة لا بد أن تحضر على أنها عامل اجتماعي، يرتبط بالقيمة المدنية والحضارية، فالإنسان مدني بالطبع كما قال ابن خلدون. لا شك في أن التعويل على فعل التواصل بالمجمل لا يمكن أن يعدّ عاملاً حاسماً في توصيف اللغة معرفياً، فاللغة تتجاوز القيمة التواصلية إلى كونها نسقاً من التمثيل للفكر الذي لا بد أن ينهض على رسالة، وقيمة معينة، فانتشار العربية والإسلام في غضون خمسة وعشرين عاماً من بدء الدعوة النبوية كان أمراً باعثاً على الحيرة، والتساؤل من قبل مؤرخي اللغات ومنهم نيقولاس أوستلر في كتابه «إمبراطوريات الكلمة»، ولعل الإجابة تكمن في الأثر الحضاري للعربية بوصفها لغة حاملة لرسالة، وحضارة حقيقية، أي أنها تتعلق بالقيم الإيجابية، لا بأنماط وتمثيلات سلبية.
الحضارة ترتبط بعملية التدوين، والكتابة أداة حفظ للمنتج الحضاري، فلا عجب أن ينشط التأليف في العصور الإسلامية نشاطاً غير مسبوق، وهذا تجلى عبر مظاهر فكرية وإبداعية وموسوعية زخرت بها المكتبة العربية التراثية في شتى العلوم والمعارف من لغة وفكر وفلسفة وأدب وغير ذلك، وهكذا نتوصل إلى نتيجة قوامها مدى اقتران الحضارة بالثقافة، علاوة على مدى تعالق كل منهما بالآخر، عبر علاقة طردية واضحة. واللغة هي نتاج ثقافي؛ ولهذا لا بد أن نختبر هذا التوصيف، ولكن في السياق المعرفي والمفهومي، فالثقافة تتسم بكونها تشكيلاً، ونسقاً سلوكياً يشمل المجتمعات باختلاف درجات تحضّرها، ولهذا نجد أن تعريف الثّقافة يتحدد من وجهة أنثروبولوجية، بأنه منظومة متكاملة من القيم والمعتقدات المكتسبة اجتماعياً، حسب موسوعة كولومبيا، ومع أن التعريف السابق مختزل، إذ لا يمكن له أن يحيط بكافة تعقيدات هذا المصطلح، بيد أنه يخدم توجهاتنا في ما يتعلق بإبراز الأثر الاجتماعي الثقافي الإيجابي في عملية تعلم اللغة واكتسابها.
وهكذا نجد أن الحضارة هي عملية تهدف إلى خلق نموذج متعالٍ من مستويات التقدم في المجتمع، في حين أن الثقافة تذهب إلى كونها حالة وجدانية تعبيرية، تحمل معها طابعاً مختلفاً (خصوصية) تبعاً لتموضعها في الحيز الذي توجد فيه، وبهذا فإنها تعني ممارسة سلوكية، ربما تكمن في أي رقعة جغرافية، ومع ذلك فإنها ترتبط بطريقة أو بأخرى بالحضارة، بيد أن الثانية مشروطة بكونها فعل إنتاج معرفي، وتقني، وكلاهما مرتبطان بالمكوّن الاجتماعي، ومن هذا المنطلق فإن اللغة العربية أضحت نتاج ثقافة سلبية، مشبعة بالعنف، والإقصاء، والخوف، بالإضافة إلى سطوة الأنساق التجريدية، وهذا لا يمكن له أن ينتج لغة تتسم بتميزها الحضاري، علاوة على أثر الممارسة السلبية (العنف) على اللغة التي ربما تتعرض للنبذ من قبل الأجيال الجديدة التي قامت بربط لغتها بهذا العنف، سواء أكان حقيقياً أو ثقافياً، فلا عجب أن تشرع هذه الأجيال للبحث عن بدائل أخرى، أي لغات تتميز بثقافة إيجابية.
القدس العربي