|
|
|
|
عن علاقة الموسيقى بالشعر
فادي العبد الله
يبحث هذا المقال في علاقة الشعر بالموسيقى من حيث هما ضربان متنافسان من الفن، لا من حيث فكرة تلحين الكلام ولا من جهة علاقة الشعر العربي الحديث بالإنتاج التلحيني الذي تسلّق على حداثته مانحاً إيّاه شهرةً أوسع من حدود الشعر، لكن بمضمون موسيقي متواضع. يعني هذا التنطّح دعوى كلٍّ منهما قدرته على البيان الفنّي عن الإنسان في مشاعره ووساوسه وهواجسه وشطحه وانفعالاته. غير أن اختلاف الوسيلة، بين الصوت الموسيقي وبين الكلمة الدالّة، لا يمكن في زعمنا تجاهله أو تخطيه، بحيث تستحيل المطابقة بينهما عبر افتراض التطابق في الموضوع المراد التعبير عنه.
إذا ما ضربنا صفحاً عن تهافت الحديث عن شعرية الموسيقى من خلال «شعرية» عناوين المقطوعات، يظلّ أن علينا البحث أولاً في الحديث عن «موسيقى الشعر» ومدى جدّيته قبل استخلاص نتائج ذلك على مفهوم الشعر والمطلوب منه كما على مغزى الموسيقى.
عقيدة موسيقى الشعر أثر من الرمزيين الفرنسيين. إنه تحديداً إرث فيرلين، وبدرجة أقل ما فهمناه عن رامبو وبودلير ونظرية «تراسل الحواس» التي حدت بكثير من المنظّرين والشعراء العرب إلى الحديث عن موسيقى الشعر، بل إلى افتراض أن الشعر موسيقى أساساً، ما يُتيح اللجوء إلى الإغماض بذريعة التعبير الموسيقي. أليس فيرلين القائل، في قصيدته «الفن الشعري»: «الموسيقى قبل كل شيء»، و«الموسيقى أيضاً ودائماً» و«لا شيء أغلى من الأغنية الرمادية/ حيث لقاء غير الدقيق بالمحدَّد»؟ أما بودلير فهو من زعم: «تأخذني الموسيقى غالباً كبحر»؟ أليس هؤلاء من تابعهم جيل سعيد عقل إلى حدّ الرغبة بالوصول «إلى البلد الحلو حيث الغمام/ بلون هديل الحمام»؟
غير أن معظم من تحدّثوا عن الموسيقى في الشعر، عنصراً بل جوهراً له، كانوا في الأغلب لا يُجيدون العزف على أيّ آلة موسيقية، فتأخذهم الموسيقى كما يأخذ البحر جبليِّين لا يجيدون العوم، أو كما أخذت موسيقى الأم طفولة مارينا تسفتاييفا، مغرقةً ذواتهم في يمّها، دون أن يكون في وسعهم تفكيك عناصرها أو فهم عملها. مثل هذه الموسيقى تتوسّع، إذ تشمل الذات، فيتوهّمها شاملةً العالم، بذا تغدو موازية أيضاً لتضخّم شعري يَحسب أنه في كلّ مرّة نبيّ العالم وخلاصه. إلا أن الموسيقى لحن وإيقاع، فيما الشعر بلا لحن. نسترجع، متعمدين الكلاسيكية، تعريفَ كامل الخلعي في «الموسيقى الشرقية»، مطلع القرن العشرين، وهو ما استقاه من سفينة الشيخ شهاب الدين؛ سفينة الفلك ونفيسة الملك، ومن سبقهم من فطاحل الموسيقى المشرقية، فنقول إن الموسيقى «علم يُبحث فيه عن أحوال النغم من جهة تآليفه اللذيذ والنافر... واللحن... (اصطلاحاً) ما ركب من نغمات بعضها يعلو أو يسفل عن بعض على نسب معلومة... وقد أجمعت الأمم من جميع الطبقات على حب الألحان ولكن ذلك على حسب عاداتهم واصطلاح بلادهم. لأنك تجد لكل أمّة من الناس ألحاناً ونغمات يستلذّونها ويفرحون بها لا يستلذّها غيرهم ولا يفرح بها سواهم...»، أو كما قال المؤلف المجهول لكتاب «الشجرة ذات الأكمام الحاوية لأصول الأنغام» فإن «الموسيقى يسأل عن أحوالها التي تعرض لها من اشتراكات كل نغم مع غيره وبُعده عن الآخر من المتلائم منه والمتنافر، الحاد والثقيل، الطبيعي وغير الطبيعي وغير ذلك» فـ«بكل نغمة نظر من الحدّة والثقل ولا يُقال للنغمة إنها حادة أو ثقيلة إلا بالنسبة إلى أخرى» (كتاب «الأدوار» لصفي الدين الأرموي). أي، بكلام أحدث، الموسيقى هي «دراسة الأصوات المربوطة بضوابط موسيقية» («النظريات الموسيقية» لسليم الحلو)، يُضاف إلى ذلك أن «اللحن ما رُكِّب من نغمات ورُتِّب ترتيباً موزوناً» («الشجرة ذات الأكمام...»). فالموسيقى إذاً، وهي من فروع الرياضيات في تبويب القدماء، ترتيب مخصوص لأصوات مترابطة بعضها ببعض بنسب محفوظة لدى كل أمّة من الناس، وهو فضلاً عن ذلك ترتيب موزون، أي أنه، غالباً، ما ينضبط على وزن من أصول الإيقاعات. أما الشعر فهو، على أحسن الأحوال «قول عَدَديّ» بحسب الكندي، أي أن له عدداً ينضبط عليه، في إطار الشعر العمودي، حيث يكون عدد الحركات والسكنات منضبطاً على نسق ما سمعه الخليل بن أحمد الفراهيدي من مطارق الحدادين المنطبقة بإيقاع مخصوص على الحديد الساخن.
هل في الشعر لحن، وهو عنصر الموسيقى المميّز لها عن طرق الحدّادين هذا، مثلما يميّزها عن أبواق السيّارات الموقّعة في التظاهرات؟ أي هل فيه ترتيب مخصوص لأصوات مترابطة بنسب رياضية مضبوطة؟ الجواب بداهة بالنفي. ليس فقط إن العهد بات عهد القراءة الصامتة منذ ما يقرب من ألف عام ونيف (ألم يكن المتنبّي العظيم «ينظر» في دوواين الشعراء الآخرين؟)، بل إن الحال على ما هي عليه وإن استعدنا لذّة إنشاد الشعر والتلمّظ بكلماته.
يمكن القول إن الناس عموماً قد ترفع حدّة نغمة الصوت أو تُخفضها في التعبير عن حالات معيّنة، كالاستفهام أو الإنكار أو الإذعان، لكن الشاعر هاهنا لا يسعه ضبط مدى الحدّة أو الثقل، مثلما لا يسعه أصلاً تقرير إن كان القارئ سيرى في هذا السؤال استخباراً أم استنكاراً، أو سيرى في تلك الجملة رضوخاً أم قهراً. أما الحديث عن تنافر الحروف أو سلاسة مخارجها فليس فيه شيء من لحن موسيقي بقدر ما فيه من تيسير القول في المنادمة أو الخطابة. بل إن الشأشأة والفأفأة وغير ذلك قد تُذكِّر أحياناً في هذا المعرض بكونها تعبيراً موسيقياً كقول بودلير:
«La musique souvent me prend comme une mer» (تأخذني الموسيقى غالباً كبحر).
أو قول راسين:
«Pour qui sont ces serpents qui sifflent sur vos têtes» (لمن هذه الأفاعي التي تفحّ فوق رؤوسكم).
لندقِّق قليلاً في ميمات بودلير وسينات راسين. يسعى تكرار الميم إلى التذكير ربّما بحركة الموج المتكرّرة، في حين تُذكِّر السين بصفير الأفاعي. لكن حركة الموج ليست صوته، ولا صوته موسيقى، في حين أن الفرنسية قد تشير إلى صوت الأفاعي بالصفير فيما تصفه العربية بالفحيح. أي أن اللغة هاهنا تحكم أصلاً الاستماع إلى الصوت العاري فكيف لها أن تعود فتأخذه مثالاً ومن ثم تعتبر تصويره، التقريبي، لحناً موسيقياً؟ أكلُّ كأكأة صوت الصباح؟
أفي وسعنا مثلاً أن نفترض أن النواسيّ، مُكثراً من أحرف الصفير، كان يتغنّى بالأفعى حين قال:
«صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
لو مسها حجر مسته سراء»؟
أو هل من مغزى لحنيّ للألف في بيت المتنبّي:
«أحاد أم سداس في أحادِ
لُيَيلتُنا المنوطة بالتنادي»؟
أم هي محض إطالة للبيت بإحلال أحرف العلّة مكان السكنات في البحر الوافر، للتدليل على طول الليلة (وتصغيرها للتعظيم على ما تُجيز العربية)؟ وظيفة التصوير الصوتي بالأحرف ليست إذاً وظيفة موسيقية، بل، على أحسن الافتراضات، وظيفة تعبيرية في سياق القول الشعري.
بالمقابل، العنصر المتوافر في الشعر، والمشترك مع الموسيقى، هو الإيقاع. لنعد إلى ربّ الموسيقى الشعرية فيرلين في «فنّه الشعري»: «الموسيقى قبل كل شيء/ لذلك فُضِّل الوتر على الشفع»، لناحية عدد النبرات في البيت الشعري الواحد، أي أنه مباشرة، بعد ذكر الموسيقى، إنما يتحدّث عن إيقاع النبرات لا عن لحن البيت، وهو ما يتحدّث عنه نقّاده مثل هيلين دوغروب، إذ تشير إلى الاختلال الإيقاعي الذي يدخله حتّى على البحر الاسكندري ذي الإثني عشر مقطعاً أو إلى مزاوجته بين ذوات الشفع وذوات الوتر من الأبيات، وذلك حين تتعمّق قليلاً أبعد من الحديث عن وجود مفردات تشير إلى عالم الموسيقى بكونها أثراً موسيقياً في شعر فيرلين! بل إن القوافي في تكرارها المضبوط إنما هي إشارات إيقاعية، كالضربات القوية في أصول الإيقاع وضروبه، وليست أصواتاً موسيقية. ونجد بعض فن المتنبّي مثلاً في مثل هذا التركيز الإيقاعي، كما في تقطيع كلمات البيت على قدر تفعيلاته مثل «أبلى الهوى أسفاً يوم النوى بدني»، الذي أطرب طه حسين حتّى كاد يرقص على ما قال مارون عبود مستنكراً.
ما تغيّر مع الخروج على عمود الشعر هو تحوّل الشعر إلى كتابة إيقاعية حرّة. فكما في الموسيقى، ليس الإيقاع ضرباً ثابتاً رتيباً، بل هو دفق يقبل التغيّر والتسارع والتباطؤ والانجراف إلى ضروب أخرى، حتى في تكرار نوطة بعينها كما أبرز سترافنسكي مثلاً، من خلال التلاعب بمواضع الشدّة والخفوت. أما أساليب الشعر فتتنوّع بين استخدام أحرف العلّة والمدّ، أو حتّى الأحرف المتنافرة والكلمات «المقعّرة» أو التشكيل البصري عبر تقسيم الأسطر وترك الفراغات بين المقاطع... إلخ.
يبقى زعمٌ أخير يتوجّب بحثه، عن علاقة الشعر بالمفاهيم العميقة للموسيقى وأبنيتها، أي بالهارموني (التآلف) والبوليفوني (تعدّد الأصوات) والنشاز (التنافر) والصدى (التكرار) والعرض والشرح والقفلة. غير أن أساليب الكتابة الموسيقية هذه استقطبتها بكل وضوح الرواية، على ما يوضح كونديرا في غير موضوع من دراساته، ولنا في جويس وبروخ وتوماس مان وغيرهم أمثلة على ذلك. بالمقابل ليس الشعر ما استقطبها، وتحديداً الشعر غير الملحمي وغير الثيولوجي. فقد رأى ليفي - ستروس إن البنى الشكلية للأساطير انتقلت، في الوسط الأوروبي، إلى التراكيب الموسيقية مع اندحار سطوة الأساطير. وملاحظته هذه تنطبق أيضاً على مؤلفات مثل كوميديا دانتي الإلهية حيث تتعدّد الأصوات، داخل القراءة الخطّية للشعر عبر تعدّد مستويات الفهم للنص من الحرفي وصولاً إلى الأخلاقي، مروراً بالاستعاري والتأويلي. غير أن ملاحظة ليفي - ستروس عينها دليلنا إلى القول بأن أساليب الكتابة الموسيقية ليست مميّزة للموسيقى وحدها ولا هذي مضمارها الأساسي، بل هذه الأساليب شطر من الأشكال التي يفرضها العقل البشري دوماً على المضامين بحسب الأنّاس الشهير، والتي لا يعني اللجوء الشعري أو الروائي إليها وإلى غيرها أن الإنتاج بات موسيقياً، بل يعني فقط إن هذا الإنتاج ذو بنية وتماسك. أما القول بغير ذلك فهو ما يقود إلى «رؤية» الموسيقى في كل شيء، سواء في الأحداث السياسية التي وصفها الشاعر الروسي بلوك بأنها موسيقية لأنه يرى في كل شيء «طاقة موسيقية»، أو في حسبان أحد معاصري غوته، إيخندورف، إن «أغنية تنام في كل شيء» وأن «العالم بأكمله سيغنّي ما إن نلقى الكلمة السحرية»! وفي هذا نظر إلى القول بموسيقى الأجرام السماوية بالطبع، إلا أنه لا يُغْنينا في شيء، فما دام كل شيء موسيقى لا علينا من عناء أي بحث!
في الشعر إذاً كتابة إيقاعية حرّة، وتشكيل بنائي قد يستلهم ما بات شائعاً أنه من أساليب الكتابة الموسيقية وقد يتوسّع عنها، إلا أن غياب عنصر اللحن، تحديداً، هو ما يظلّ يمنع الشعر من أن يكون موسيقى أو أن يُجاريها في مضمارها، أي نحت الوقت بالصوت والإقامة المتأرجحة المُخلخلة للزمن حيث لا يكون الصوت إلا هارباً أو منتظراً.
يظلّ أن الموسيقى لا تكون فصيحة فهي تعبّر عن الغامض بالغامض، وفي هذا هي ضرب من الفكر لا يمرّ باللغة، على ما رأى ليفي - ستروس أيضاً. أما اللغة، والشعر تحديداً، فبيان وإعجام. فإن لم يكن الشعر موسيقى، أي غموضاً، فهو مُطالَب من جديد بالبيان والفصاحة. ولمّا كان الشعر ليس في جوهره من الموسيقى، لم تكن هذه مانعاً من ترجمته، خلافاً لما يحسب الكثيرون، بل إيقاعه، حين يدخل الإيقاع في تشكيل الصورة، وظلال المعاني أو زائدتها بحسب عبارة الشيخ عبد الله العلايلي في تعليقه على بيت يُنسب إلى ابن بابك:
«ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً
لقىً بين أقراط المها والمحابسِ».
فللَّفظ، فضلاً عن المعنى المقصود، وتعرُّفه ليس دوماً سهلاً، زوائد موحية قد تكون من أصل معنى قريب كاقتران اللقى باللقاء وبالإلقاء أرضاً، كما قد يكون فيها ظلال من شبه بكلمة أخرى، أو من اعتياد على ورودها في سياق أو في عبارة محفوظة. يظلّ أيضاً أن لغز الشعر في أن يكون بياناً وإعجاماً فيما هو كتابة ضدّ اللغة (جان كوهين) وضدّ الذات (جوليا كريستيفا)، أو هو، في مخيّلة العرب، وحي شيطاني وهيام في كل وادٍ وغواية. ربّما كان ما يحفظ الشعر حيّاً، في لغته الأم، هو التعالُق الفريد بين ظلال الكلمات وفيء الإيقاع، أما ما يحفظه حياً، في جميع اللغات، فقد يكون تحديداً كونه نقيض الموسيقى: سبك شعور أو وسواس أو شطح أو انفعال أو خُبْرٍ في عبارة ننتزعها بقوّة التجربة من صميم اللغة ولاوعيها، بدل تركه يجتاح النفس ويغرقها في غموض حدوده حين لا تنالها اللغة فيقيم حينها، كالصوت الموسيقي، بين التذكّر والتوقّع.
الغاوون
|
|
|
|
|
|