أ. فهد عامر الأحمدي
أبديت في آخر مقال موقفاً مرناً تجاه قواعد النحو والإملاء التي جمدت لغتنا العربية على وضعها قبل أربعة عشر قرناً.. أبديت أسبابي وتساءلت ما الذي يمنعنا من النظر للأخطاء التي نرتكبها اليوم كإرهاصات أو دلائل على تطور اللغة العربية ذاتها؟..
فقواعد اللغة القديمة (شئنا ذلك أم أبينا) أصبحت اليوم تعيش في معزل عن لغتنا المحكية، ولا تنطبق على أي من اللهجات السائدة في الأقطار العربية.. فالحقيقة هي أن التطور والإضافة والتعديل والتأقلم من طبيعة أي لغة وتتقبلها بقية الشعوب بصدر رحب (لدرجة أن اللغة الإنجليزية المحكية في إنجلترا هذه الأيام تختلف بنسبة 72% عما كان سائداً في عصر شيكسبير)!!
... أما أصعب تفسير يمكن أن تقدمه كعذر (لأخطائك النحوية والإملائية) فهو انغماسك أنت في مؤثرات ظرفية أو وجدانية يصعب شرحها لحراس اللغة الفصحى.. ففي بداية حياتي المهنية مثلاً عملت في مدرسة جديدة للبنين.. كنت أقوم تقريباً بكل شيء، بما في ذلك تسجيل المعاملات الواردة.. وكانت هناك خانة خاصة بكتابة الجهة التي وردت منها المعاملة مثل "شؤون المعلمين" و"شؤون الموظفين" (وكنت أكتبهما بالياء كونها جمع مذكر سالم مضاف)..
ولكن نظراً لصغر الخانة لم أعد أكتب كلمة "شؤون" وأكتفي بكتابة الكلمة التالية لها.. "الموظفين" و"المعلمين" فقط.. وذات يوم شاهد المدير الدفتر فأخبرني بخطأ كتابة الكلمتين (بالياء) وضرورة كتابتهما (بالواو) كونه لم يسبقهما ما يغير حركتهما.. وكان كلامه صحيحاً، ولكن كيف أشرح له أن كلمة "شؤون" كانت حاضرة دائماً وبقوة في ذهني قبل "الموظفين" و"المعلمين"...
أيضاً حين كتبت مقالاً بعنوان "تعرف إيه عن المنطق؟" كنت أسمع في رأسي صوت المعلمة سهير البابلي وهي تطرحه كسؤال (على مرسي الزناتي في مدرسة المشاغبين).. كانت تسأله باللهجة المصرية وتمد الألف بشكل مبالغ فيه الأمر الذي دعاني لكتابة العنوان بهذا الشكل: "تعرف آآآية عن المنطق".. غير أن المصحح اللغوي في الجريدة اتصل بي ليخبرني بوجود خطأ في العنوان وأنني كتبت الكلمة بطريقة تشبة "آية" القرآن.. ومرة أخرى وافقته الرأي (ولم أفترض اندماجه مثلي في أجواء المسرحية) خصوصاً أن كتابتها بهمزة علوية أو سفلية لا يتفق مع طريقة نطقها باللهجة المصرية!!
... ما أحاول قوله (في مقال اليوم والأمس) ينحصر في أربع نقاط هي:
إن دخول تقنيات الكتابة الحديثة ستجبر الأجيال القادمة على تجاوز المتطلبات الإملائية والقواعد النحوية واللجوء للاختصارات (كما يحدث الآن مع لوحة الكمبيوتر والجوال والتلقين الصوتي)...
إن القواعد النحوية والرسوم الإملائية تملك مدارس متعددة في حين لا أجد مغزى من كتابة أحرف لا تنطق، وتجاهل أحرف تنطق، وعدم تطبيق كل هذا مع الهمزة التي حيرنا موقعها في الكلمة..
أضف لهذا أن الكاتب (وأعني به هنا كل من يستطيع الكتابة) قد تتواجد في رأسه مواقف وخلفيات يصعب نقلها لوجدان من يحكم عليها (بحسب القواعد اللغوية المجردة)..
وفي النهاية؛ اللغة العربية ذاتها ليست قرآناً منزلاً، والقواعد التي ندرسها اليوم وضعت بحسب لغة قريش وتجاهلت وجود قواعد وتراكيب لغوية كانت سائدة بين تميم وهذيل وغطفان وبني سعد.
الرياض