د. حامد الحمود
كانت هناك كلمتان لخريجي مدرسة البيان ثنائية اللغة لعام 2016 الذي جرى في 2 يونيو. الأولى لأحد المتفوقين، وكانت بالعربية، والثانية لمتفوقة ألقتها باللغة الإنكليزية.
الكلمة التي كانت باللغة العربية ألقاها الطالب محمد نبيل المعجل، الذي كان متميزا في إلقائه ومبدعا في مضمونه. وعلى الرغم من تفوقه الأكاديمي، فقد حاول المعجل أن يقلل من أهمية التفوق الأكاديمي، مركزا على تنوع المواهب لدى الطلبة، وأن كثيرا منها لا تقاس بالدرجات.. ليس هذا فقط، وإنما تخيل في كلمته نظاما سياسيا أو اجتماعيا معطيا مهاما لكل من طلاب وطالبات دفعته في هذا النظام أو الدولة لإظهار إعجابه بمواهبهم. كان أسلوب المعجل متميزا بأن حول التركيز من المتحدث إلى زملائه وزميلاته الذين تفوق عليهم أكاديميا. لكن الطالب محمد المعجل حالة نادرة بين رفاقه، ليس فقط لتفوقه الأكاديمي، وإنما إلى تمكنه في اللغة العربية في هذه المدرسة الثنائية اللغة. فهناك شبه عدوانية للغة العربية ولدروسها. لاحظت هذه الظاهرة لدى الكثير، وتأكدت لي بعد الاطلاع على الكتاب السنوي للمدرسة، حيث ذكرت إحدى الطالبات من باب التعريف عن نفسها أنها تشتهر بترديد العبارة: «أنا أكره درس العربي». وأكثر الاحتمال أنها تلفظها «أنا أكره عربي».
ولكي نحلل هذه الظاهرة، فلا بد من الاعتراف بأن كثيرا من الطلاب والطالبات يشاركون هذه الطالبة المشاعر.. وأن الطالب المعجل حالة استثنائية. وأرى أن ذلك يتعدى حتى دور منهج اللغة العربية في نفور الطلبة من مواضيعه، والتي كتبت عنه كثيرا، كما يتعدى شخصية أساتذة اللغة العربية ورؤاهم المحافظة التقليدية، خاصة إذا ما قورنوا بأساتذة المواد الأخرى في المدارس الأجنبية وثنائية اللغة. وأرى أن ذلك يرجع إلى رؤية هؤلاء الطلبة بمحدودية الفضاءات الذي تنسجها اللغة العربية مقارنة باللغة الإنكليزية. فهم تخرجوا من دون أن يتأثروا برواية أو قصيدة باللغة العربية، ولا يستمعون الى أم كلثوم، ولا حتى محمد عبده. وعقلهم اختار ألا يتذكر أيّاً من مواضيع اللغة العربية.
لم أكن أعتقد أن هذه الظاهرة ستمتد إلى وطننا وإلى بيوتنا. كنت أعتقد أن هذه الظاهرة المتمثلة بنسيان اللغة العربية، تخص أبناء العرب الآخرين الذين فرضت عليهم حياة الهجرة الاضطرارية؛ هربا من الحروب. وحتى إن هؤلاء المهاجرين يعانون من رؤية أبنائهم يفقدون لغتهم العربية. وتقول الروائية اللبنانية هدى بركات التي اضطرتها الحروب الى الهجرة إلى باريس: «استمتنا لتعليمهم اللغة العربية، أو استمتنا ليستمروا في تعلم العربية.. ثم، وفي الحالتين رحنا نستميت لكي يحافظوا على ما كانوا قد تعلّموه من هذه اللغة قبل أن نغادر البلاد.. ثم ها نحن مستميتون لكي يستمروا في التحدث إلينا أو في ما بينهم بالعربية».
ونشأ في الكويت جيل يتخاطب ويتحدث ويتراسل ويقرأ ويكتب بالإنكليزية. لا يطلع على الصحافة المحلية وقليل الاهتمام بالشأن السياسي المحلي. فثنائيات اللغة التي يدرسونها لا تجذبهم إلى اللغة الأم، ويعتقدون انهم لا يحتاجون اللغة العربية، لا في الدراسة ولا في العمل. فهذا الجيل الذي وجد في الإنكليزية ملاذا، لا يهرب من اللغة العربية فقط، وإنما إلى كل ما تذكره اللغة العربية من تقاليد وقيم غير مقتنع بها. ولأنه هروب وليس تحولا حضاريا، هناك احتمال قليل أن يقدم هذا الجيل على إنجازات تؤثر في الحراكين الاجتماعي والسياسي.
إن توقهم لفضاءات الحرية سيقتصر على الفردي، وليس الاجتماعي. فلا تغيير اجتماعياً من دون إنتاج باللغة العربية نفسها.
نحن نعيش حالة من الضياع والتدهور الثقافي. وربما ستكون مساهمة هذا الجيل، الذي لا يجيد العربية في ولادة عصر جديد. المتفوقون بما في ذلك في اللغة العربية ــــ أمثال محمد المعجل ــــ هم الأقدر على تحمّل مسؤولية التغيير والتحوّل الحضاري.
عيون الخليج