للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي الحادي عشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

هل اللغة هي مربط الفكر؟ - 2

د. محمد الخالدي

 

شَعشَعـتْ كأسُهـا ورَفَّ الضِّيـاءُ... وعَـلاهـا مــن السَّـنـا لأْلاءُ

لُغَةُ المرءِ ذاتُه، إِنْ تهُـنْ هــانَ... وأضْـوَى وذَلَّتِ الكِبريــاءُ

«محمد بهجة الأثريّ»

كثرَ الجدل على مر العقود الماضية حول ما إذا كانت اللغة هي التي تشكل فكرنا، أو أن فكرنا يساهم في تشكيل اللغة، والحقيقة أن الطريقة التي نفكر بها تؤثر في الطريقة التي نتحدث بها، والعكس صحيح.

ولقد تقدمت البحوث خلال العقد الماضي لتبيّن أن للغة تأثيرًا مسبِّبًا في تشكيل الإدراك، فتغيير الطريقة التي يتحدث بها الناس، يغيّر طريقة تفكيرهم دون وعي منهم.

لذلك، ليس كله صحيحا المثل الذي يقول: «من عرِف لغة قوم أمِن شرَّهم» فعندما نتعلم لغة أخرى في طفولتنا، فإننا قد نقع في حبائل اللغة الجديدة من حيث لا نعلم، فنخسر ثقافتنا وأنفسنا. فقد حذّر ابن خلدون في مقدمته من مخاطر معرفة ثقافة الآخر وفكره، قبل تحصين أنفسنا في ثقافة لغتنا وفكرها في المقام الأول، عندما كان يتحدث عن تأثير الفلسفة اليونانية على فكر الكثير من فلاسفة العرب ومفكريهم.

وبالإضافة إلى اختلاف تأثير اللغة على فكر الإنسان باختلاف الدلالة المكانية، فإن اختلاف الدلالة الزمانية بين اللغات له بالغ الأثر. ويتمثل ذلك بمدى إمكانية اللغة على تصريف أفعال اللغة على الأزمنة المختلفة (ماض، وحاضر، ومستقبل). فلو قلتَ «إن الشعب العربي يقاتل من أجل تحرير فلسطين» فذلك يختلف عن قولك: «إن الشعب العربي سيقاتل من أجل تحرير فلسطين» فالفعل في زمن المستقبل يجعل التحرير بعيد المنال نسبيا. وفي ذلك - كما أرى - تفسير لكثرة استخدامنا عبارة: «إن شاء الله» في التزاماتنا ووعودنا المستقبلية، التي غالبا نعني بها التسويف والتملّص من الوفاء بالالتزامات والواجبات، وتعكس وجها من وجوه تخلفنا.

هناك دراسة قام بها «كيث تشين» من كلية الإدارة بجامعة ييل (2013م)، وحلّل فيها بيانات من 76 بلدا، مع التركيز على أمور مثل توفير المال، وعادات ممارسة الرياضة، والصحة العامة. وكانت النتيجة مثيرة للدهشة، حيث وجد أن الثقافات التي يتكلم معظم الناس فيها لغات لا توجد بها أفعال مستقبلية، مثل اللغة الصينية او اليابانية، يتمتع الناس فيها بصحة أفضل وحياة أطول، ويتخذون قرارات مالية أفضل، بشكل عام. في الواقع، وجدت الدراسة أن لغة تحمل أفعالا مستقبلية مثل اللغة الإنجليزية، جعلت الناس أقل نزوعا لتوفير المال بنسبة 30%.

ويُعتقد أن الناطقين باللغات التي ليس فيها أفعال مستقبلية أو أنها لا تجبر ناطقيها على ذلك، لا ينظرون لحياتهم على أنها جدول زمني، ولكن كوحدة كاملة، لذلك، هم تلقائيا أكثر وعيا بكيفية تأثير قراراتهم على مستقبلهم من الناطقين بلغات ذات بعد زمني. ومن الغريب أنه يبدو أن التفكير في المستقبل كشيء بعيد الحدوث، ومعزول عن واقع حياتنا اليومية، يجعلنا أكثر عرضة لنكون شعوبًا استهلاكية، ننظر للمستقبل كما ينظر أحدنا للسراب.

ويبدأ تأثير اللغة علينا قبل أن نتعلم النطق. بل ان النَّاس تولد ومعها نبرات صوتية مميزة. فقد بينت بعض الأبحاث أن الجنين يتعلم نمط لغة أمه وهو في بطنها. فهناك دراسة أجريت في العام 2009 على 60 مولودًا جديدًا من الفرنسيين والألمان، وجدَت أن المواليد الفرنسيين يبكون بصوت رقيق، مقارنة بالمواليد الألمان الذين كان صوتهم كالنباح.

كما أن التركيبة البنيوية للغات تجعل قدرتها على التأثير على ما نتذكّر مختلفة، مما يجعل الأشياء أسهل أو أصعب في التعلم. على سبيل المثال، فإن عدد مقاطع حروف الأرقام في اللغة له علاقة وثيقة بصعوبة أو سهولة تذكر الأرقام والقيام بالحسابات الذهنية. فاللغة الإنجليزية - مثلا - قد تكون مقاطع حروف أرقامها أقل من العربية، وهذا يعطي الناطقين بها قدرة أكبر على إجراء العمليات الحسابية الذهنية وحفظ أرقام الهواتف وما شابهها.

ومن ذلك أيضا دور البناء اللغوي في «الضمائر» بين اللغات في قدرتها على إيصال المفهوم بشكل أدق وأسرع. فضمير المخاطَب في اللغة الإنجليزية هو كلمة واحدة (you) سواء كان المقصود فردا أو جمعا، مذكرا، أو مؤنثا، بينما هو في العربية متعدد حسب جنس وعدد المخاطَبين. فهناك أنتَ، وأنتِ، وأنتما، وأنتم، وأنتنّ. وكل واحدة منها مخصصة تعطي معنى أدق وفهما أسرع.

وللغة تأثير على الخيارات التي يتخذها الإنسان ودرجة المخاطرة التي يتحملها عند اختيار قراره، كما بيّن ذلك الباحثون بجامعة شيكاغو. فلو أشكلَ عليك الأمر في الاختيار بين أمرين (مثلا: دخول الجامعة أو الكلية العسكرية)، ما عليك إلا أن تفكر بلغة مختلفة لتحسم أمرك.

أحد الأساتذة المتخصصين في علم النفس واللسانيات كان يسأل طلابه الجامعيين في كل فصل دراسي عن أهم قدرة إدراكية يكرهون فقدها. كانت أجوبة الطلاب دائما تتراوح بين حاسة البصر، أو حاسة السمع، ونادرا ما يشير أحدهم إلى اللغة. والحقيقة أنه بدون اللغة لا نستطيع أن نتعلم، أو نكوّن أصدقاء، أو نحصل على وظيفة، أو نبني أسرة. فالسمع والبصر وأدوات الإدراك الأخرى لا فائدة منها بدون اللغة التي تقع في قلب تجربتنا كبشر. وكلما كان لدينا فهم لدور اللغة في بناء حياتنا الفكرية، اقتربنا خطوة أكثر من فهمنا لطبيعة الإنسانية.
 

اليوم

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية