د. بروين حبيب
إن كان الزمن خطا مديدا ينطلق من ماضي سحيق ويتوجه نحو مستقبل لانهاية له فإن الأمر محزن لأن هذا يعني أن لا شيء قد يعود من الأزمنة الجميلة الغابرة. أمّا إن كان الزمن مكتملا أو بعد يمكننا أن نتحرّك فيه جيئة وذهابا كما يذهب بعض العلماء، فالأمل كبير لنستعيد تلك الأزمنة الجميلة ونتوقف عندها طويلا. إن ما يتطوّر ويتغيّر هو الآلة وليس الزمن، حتى إن كنا نشيخ ونموت فإن الأمور الممكنة المتعلّقة بالزمن مرتبطة بطريقة تفكيرنا أولا.
اليوم ونحن نجلس أمام أجهزة الكومبيوتر الجميلة ونكتب مختلجات قلوبنا وأفكارنا هل نعي جيدا أننا ندفن الحروف إلى الأبد في قبور لا نعرف متى تغلق أبوابها؟ هل نعرف أن هواتفنا الذكية التي نخزن فيها أبهى لحظات حياتنا، من دون انتباه منا نودعها قبرها الأبدي وبخلل مفاجئ أو كبسة «تتش» خاطئة ينمحي كل شيء، تماما كما يحدث لشخص فاقد للذاكرة بعد تعرضه لصدمة.
لقد كان زمن الحبر والورق زمنا آمنا وجميلا فعلا، وكانت دفاترنا قطعا ثمينة ونحن نختارها بعناية بألوان مختلفة ونوعيات ورق تنبعث منها روائح فائقة السحر، لها تأثير مباشر على عقولنا ومشاعرنا لنكتب. لا أدري إن كانت الأجيال الجديدة تعي جيدا ما خسرته بعد فقدان أدوات الكتابة وإتقان كتابة الحرف باستدارته ومنحنياته الجميلة، مثل رقصة فالس. على الأصابع أن تعرف كيف تمسك قلما بأناقة ثم عليها أن تتجانس مع موسيقى الروح لتنساب الحروف على مسرح الورق مغناجة ورشيقة، من دون اهتزازات تخطئ درب تلك الرّقصة المدهشة. كل حرف سواء في اللغة العربية أو في لغات أخرى له أناقته حين كانت الكتابة بالريشة والحبر، ولا أعتقد أن تلك الأناقة ظلّت حين اخترعت الأقلام الجافّة.
اليوم وأنا أقف أمام ريشة من النوع القديم في علبة فاخرة وبسعر خرافي في محل للهدايا، تساءلت إن كان التّطور يقتل كل شيء جميل ليعوضه بأجهزة تختصر الزمن؟ هل تحقق لنا فعلا اختصاره؟ فكلما تطورت هذه الأجهزة تقلّص شعورنا بالزمن وشعرنا بضيق الوقت، حتى أن تلك المقولة التي تقول «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك» إنما هي تهديد مباشر لأدمغتنا لتشعر بالتشويش وبالقلق وتفقد جزءا مهما من تركيزها. صحيح أننا يجب أن ننجز أعمالنا في أوقات جيدة لكن هذا لا يعني أن ندخل في قتال مع الزمن، إتقان الشيء مرتبط بإعطائه حقه الزمني، وليس بحرق مراحله العمرية.
وقديما قال نابليون على ما أعتقد لسائسه «سق على مهلك لأن لي موعدا مهما» وفي ذلك حكمة عظيمة ليس لأن في العجلة الندامة بل لأن كل منجز يحتاج لزمنه الخاص ليكتمل. ونابليون نفسه وأغلب من نلقبهم بعظماء التاريخ لم نعرفهم جيدا إلا بما خطت أيديهم خاصة لحبيباتهم، وحتى إن كان للحب أقنعة فإنها لم تكن أقنعة لإرعاب الناس كما أقنعة السياسة. ولو أن هؤلاء جميعا عاشوا في الزمن الإلكتروني فحتما ما كان ليصلنا شيء مما خطته أناملهم وقلوبهم.
إن هذه الأجهزة غبية حتى إن كانت تقود حياتنا بشكل أسرع، فقد حدث ذات يوم أن تعطّلت كبسة حرف الاّم في جهازي، فعشت على مدى يومين «محنة عظيمة» وتعطلت كل أشغالي بسبب عدم مقدرتي على كتابة حرف واحد. وما كان هذا ليحدث لو أن كتابة الأحرف يدوية.
حسنا البعض يقول إن الأمر ليس هكذا، لأن لوحة المفاتيح مريحة، للأصابع وللرقبة والكتفين، كما أن الصفحات الرقمية يمكن تصحيحها، يمكن شطب وإضافة ما نريد، وكل هذا يعطي عملا نظيفا ومكتملا. أما الورق فيحتاج لطقوس كثيرة، وبذل مجهود مضاعف للحصول على النتائج نفسها، إضافة إلى أن طباعة المخطوط أصبحت مكلفة لصفه قبل نشره. «كُتّاب الورق « يصرون على أن نوعية الورق التي يكتبون عليها ونوعية الأقلام تلهمهم للذهاب في نصوصهم بعيدا، وتمنحهم زخما روحيا يغذي قصصهم طيلة فترة الكتابة، منهم من يكتب على دفاتر ملونة وآخرون على وجه واحد من الورق وآخرون على قصاصات ودفاتر صغيرة يحملونها حيثما يحلون. ويعتقد هؤلاء أن هذه الطريقة تشعرهم بالحرية لأنهم غير مربوطين بجهاز يحتاج لمكان تتوفر فيه الكهرباء وأنوار مناسبة لرؤية الشاشة جيدا. الأقلام الرقمية وتوابعها صرعة خرجت من السويد ونافستها صرعات أخرى ثم ما لبثت أن تراجعت، إن لم تنطفئ تماما، وما بقي ثابتا وسط تقلبات الأجهزة الرقمية هو الأقلام بأنواعها من أقلام الرصاص إلى أقلام الحبر.
أمّا القدرة على الكتابة بخط جميل فتلك هي المعجزة، فبعد العصر الذهبي للكتابة على أجهزة الكومبيوتر و«الآي باد» وغيرهما أصبح الحرف غريبا عن الأنامل.
اللغة كلها في خطر إذا توجه العالم إلى استبدال الدفاتر والأقلام لتلاميذ المدارس بالأجهزة الرقمية المشحونة بالطاقة الكهربائية والمفرغة من التلامس الحقيقي بين الأحرف والأصابع وتبادل نظرات العشق وجها لوجه… وهذا إن أنبأ بشيء إنما إلى فقد الرابط الحقيقي بين اللغة والإنسان، مثل الطفل الذي يفطم عند الولادة ويقذف به إلى ميتم ليهتم برعايته.
الكتابة على الورق بقلم كمن يجلس إلى حبيبه، مفعما بالمشاعر الجياشة والحب الذي يؤججه الحضور، الآن إن قال غيري إن «الغاية تبرر الوسيلة» فقد تعددت كثيرا وسائل تواصلنا فهل حققت الغايات؟
أنصار «الكيندل» سعداء بمكتبتهم الضخمة التي يحملونها معهم حيثما يكونون من دون عناء ولكن نسبة كبيرة من القراء عادت للكتاب الورقي الدافئ، في نيويورك تقول الإحصائيات إن أكثر من 30٪ من القراء تخلوا عن الكتاب الإلكتروني، أما الفرنسيون فلا يزال حماسهم أقوى للورق، ولم يهتز أبدا، ولا تزال باريس مقصد كتاب أوروبا كلها لرؤية كتبهم الورقية المترجمة للغة الفرنسية وهي في أبهى حلتها، خاصة حين تحمل توقيعهم لقراء يعرفون قيمة «خطّ اليد».
الأثرياء الذين دفعوا مبالغ خيالية للحصول على النسخ الأصلية لرسائل بين مشاهير، لم يفعلوا ذلك من أجل محتوى تلك الرسائل بل من أجل البصمة الخطية النّادرة لأناملهم وإن كان البعض يرى أن ذلك ضربا من الجنون فإننا اليوم حسب خبراء خط بارعين يمكننا قراءة شخصية كل منهم من خلال خطه.
بالنسبة لي إن كانت التكنولوجيا تسرقنا من أنفسنا وتحوّلنا إلى أجزاء متممة للماكينات فهل يحق لنا أن نتحدّث عن إنسانيتنا بعد بالمفهوم الذي قرأناه في كتب قديمة احتفت بالإنسان ككتلة من المشاعر والأمور المعقدة التي صنعته؟
من غير المنطق أن نتعلّق كثيرا بأجهزتنا اللابتوب وننسى الأقلام البسيطة التي أمسكت بأيدينا ونحن أطفال لتقودنا لعالم مختلف عن فضاءات اللهو وجهل الأشياء، ومن دون أن ندري جعلتنا نمشي طريقا طويلة في غمار المكتوب والمعرفة والنضال وتحويل الأفكار المتخيلة إلى منجزات ملموسة. ربما لهذا نفرح حين نُهدى قلما، نفرح أكثر حين «نسرق» قلما سهوا ونحن نملأ أو نوقع ورقة وفقط سارق الأقلام لا أحد يعتب عليك!
القدس العربي