فاروق شوشة.. لؤلؤة في قلب اللغة العربية
أ. يوسف القعيد
عندما كنا ننصرف من مسرح الجلاء بعد ظهر الخميس 13 أكتوبر. بعد الاحتفالية الكبرى التي أقامتها القوات المسلحة بمناسبة مرور 43 عاماً على حرب السادس من أكتوبر سنة 1973. وحضرها وخطب فيها الرئيس عبد الفتاح السيسي. وكان من الحاضرين عدد من الكُتَّاب والأدباء والمثقفين كما يحدث كل عام تقريباً.
لا أدري السبب الذي دفعني لكى أسأل العميد محمد نبيل، من إدارة الشؤون المعنوية التي نظمت الاحتفالية. وهو أديب قبل أن يكون ضابطاً بالقوات المسلحة. وله نتاجات أدبية مهمة وفنية قصص وكتب انطباعات وسيناريوهات.
وجدتني أسأله:
– لماذا لم توجهوا الدعوة للشاعر فاروق شوشة، حارس اللغة العربية الأخير؟ لأنني لم أجده هنا، وكان يحضر في كل السنوات السابقة؟
قال لي محمد نبيل:
– لقد وجهنا له الدعوة، واتصلت به، واعتذر عن الحضور بسبب ظروفه الصحية الصعبة والمتأخرة. لدرجة أنه قال إنه لا يستطيع المشي الآن بسبب مرضه.
لم أكن أعرف ولم يكن محمد نبيل يدرك أن الرجل وقت طرح السؤال والإجابة عليه، بعد ظهر الخميس قد أوشك أن يودع الدنيا. وأنه ربما ودعها بعد هذا الكلام بقليل.
الموت علينا حق. والرجل أكمل الثمانين من عمره. وسن الثمانين لا أقول انه متقدم. لكني أذكر بمناسبة الثمانين أن صلاح منتصر الصحفي المصري المخضرم عندما كان يتحدث في الاحتفالية التي أقامتها القوات المسلحة. وكان حديثه يدور حول الإعلام والحياة العامة في مصر. وقد ذكر أكثر من مرة أن عمره كبير. ومرة أخرى قال إنه متقدم في العمر. وأنه كبير في السن. وفي المرة الثالثة حدد عمره عندما قال بفكاهة مصرية أحبها كثيراً إنه إن ذكر عمره سيقول إنه (الأربعين مضروبة في اتنين).
أي أن الرجل لم يحب أن يذكر الثمانين. علماً بأننا عاصرنا الكثيرين الذين تجاوزوا الثمانين وتجاوزوا التسعين وربما تجاوزوا المائة. رغم أن الذين تجاوزوا المائة كانوا يرفضون ذكر ذلك صراحة. وربما كان أشهرهم الموسيقار محمد عبد الوهاب، الذي لم يذكر ذلك ولم يسمح لأحد أن يذكره أمامه.
فاروق شوشة هو اللغة العربية تمشي على قدمين. حتى عندما كان يتحدث معنا في جلساتنا الخاصة كان يحرص على أن يستخدم العربية الفصحى. رغم أن العامية المصرية لا تعد لغة أخرى. لكنها إحدى لهجات العربية الفصحى. لكني لم أسمعه يتحدث إلا مستخدما الفصحى. وكان يحرص على أن يكون شكلها اللغوي من حيث قواعد النحو والصرف سليماً مائة في المائة. وكأنه درَّب لسانه على ذلك. واللسان استجاب لتدريبه وحرص على أن يعبر عن ذلك بوضوح تام.
عرفته في ستينات القرن الماضي. كان شاعراً وكان في الإذاعة المصرية. كان لديه برنامج كنت أحرص على الاستماع إليه يومياً بقدر الإمكان، عندما كان الراديو المصري سيد الأذن المصرية والعربية. كان برنامجه عنوانه: لغتنا الجميلة. وكان يومياً. وكانت مدته شديدة القصر. حيث أنه كان يقع في خمس دقائق. يأتي في التاسعة ليلاً إلا خمس دقائق. وينتهى في التاسعة. وكان فاروق شوشة يسجله بصوته. ويدور حول جماليات اللغة العربية ومفرداتها البديعة.
عندما أنشئت شركة الصوتيات والمرئيات. وكان الهدف من إنشائها أن تقدم تراث الإذاعة المصرية والتلفزيون المصري مسجلاً على أشرطة لمن يريد أن يقتني ما سبق أن استمع إليه من روائع الإذاعة. ولفت نظري لنتاجات هذه الشركة في بدايات تشكيلها أنها طبعت على شريطين كل شريط ساعة حديثاً مبكراً جداً لنجيب محفوظ. كان قد أدلى به لإذاعة صوت العرب يتحدث فيه عن نشأته وثقافاته وكتاباته.
طلبت من المسؤولين عن الشركة في بداياتها أن يسجلوا حلقات لغتنا الجميلة ويعرضوها للبيع. وأكدت له أنها ستباع بطريقة ربما لا تخطر على البال. ورغم أنه وعدني. إلا أن وعده مثل كل وعود زماننا لم ينفذ. وربما نفذ ولم أعرف. لكن البرنامج كان قطعة من التراث اللغوي العربي. يكفي أي إنسان أن يستمع إليها حتى تكون لديه ثقافة لغوية حقيقية. نحن في أمس الحاجة إليها الآن.
هل أقول انه واحد من آخر حراس اللغة العربية. وأن قيمة الدور الذي قام به في حياته أننا نعيش زمناً نهتم فيه بكل لغات الدنيا إلا لغتنا العربية. يكفي أن تمر على حي من الأحياء يوجد به معهد يدرس اللغات الأجنبية: الإنجليزية، الفرنسية، أو الألمانية أو الإسبانية أو الإيطالية. ستكتشف أن الشارع مغلق تماماً لأن الطلاب الذين يدرسون هذه اللغات الأجنبية ينتظرون الحصص التي يدرسون فيها هذه اللغات.
كان يحزنني كثيراً جداً أنني لا أجد معهداً يدرس اللغة العربية. حتى لو لم يكن هناك إقبال عليه. بل كان حزني يشتد عندما أقرأ إعلانات الوظائف التي تطلب موظفين وأجد أن اشتراط إجادة لغة من لغات العالم شرطاً أساسياً للحصول على هذه الوظيفة أو تلك. في حين أني لم يسبق لي أبداً أن قرأت إعلاناً يطلب من المتقدم للوظيفة أن يجيد اللغة العربية ضمن مؤهلاته للحصول على الوظيفة.
في هذا المناخ وذلك الجو، اختار فاروق شوشة أن يكون لسانه عربياً صرفاً. لم أسمعه أبداً يستشهد بمفردة من لغة أخرى غير اللغة العربية. أو يستعين بكلمة غير عربية ليعبر عما في عقله. لكنه كان عربياً صميماً في عروبيته وكان يعتبر أن اللسان العربي هو المعبر الأول وربما الأخير عن عروبة العربي في زمننا هذا. وفى أوقاتنا العصيبة تلك، التي استعرنا فيها ألسنة الآخرين وعبرنا عن أنفسنا بلغاتهم. ونسينا أو تناسينا اللسان العربي المبين.
ونستكمل..
عُمان