أ. أمين لونيسي
استعان جزائريون بقوة أحكام العدالة للتخلّص من «فرنسة» الإدارة في البلاد التي تخط وثائقها منذ عقود بلغة غير رسمية، في مبادرة لا سابق لها بعد تحوّلات طفيفة في التوجّه نحو التعريب والمطالبة باعتماد اللغة الإنكليزية، في وقت تعاني «لغة سيبويه» في عمق المجتمع من هجر وعزوف.
وفي ظاهرة بتاريخ الجزائر الحديث، يمثل جزائريان من أقصى شرق البلاد قائمان على شركتين وطنيتين أمام القضاة لإجبارهما على إرسال الفواتير بالعربية والأمازيغية، بوصفهما اللغتين الرسميتين للدولة بدل الفرنسية، ما أثار ردود فعل متباينة في الشارع بين مساند ورافض. وأقدم أمين بخة على رفع دعوى قضائية ضد شركة «سونلغاز» المتخصصة في توزيع الكهرباء والغاز، يطالب بإجبارها على إرسال فواتيرها بالعربية والأمازيغية بدل الفرنسية. أما الدعوى الأخرى، فرفعها لوز جلال ضد شركة اتصالات الجزائر.
وقد استند المدعيان إلى المادتين الثالثة والرابعة من الدستور، اللتين تنصان على أن اللغة الرسمية للدولة هي العربية، وأن الأمازيغية لغة وطنية.
الخلاص يبدأ من الإدارة
وحجة المعنيين أن الجزائريين يتلقون تعاملات إدارية كثيرة بلغة أجنبية ليسوا مطالبين بفهمها، ولا قراءتها، لأنها ببساطة أجنبية وغير منصوص عليها في الدستور، على عكس العربية والأمازيغية.
ودعم المبادرة نواب في البرلمان وحقوقيون، لا سيما أن عدداً اتصل بهما لتقديم المشورة القانونية. وفي هذا السياق، عدّت الخطوة سابقة نضالية متفردة تنم عن الإصرار على الحقوق المكفولة دستورياً في أسلوب مطلبي سلمي بأدوات حضارية، كما أوضحت النائب عن حزب إسلامي سميرة ضوايفية. فيما طالب نشطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي بضرورة اقتداء المواطنين جميعهم بتعميم هذا السلوك الحسن، كي تندثر «لغة الاستعمار الفرنسي» من البلاد.
وبالمناسبة، تطرح تساؤلات مشروعة من شقين عن مدى استعداد الإدارات الرسمية والمجتمع الجزائري لمسعى التعريب، لا سيما أن بعضهم تمسّك باللغة الفرنسية التي اعتبرها الأديب كاتب ياسين غداة الاستقلال «غنيمة حرب».
ويشير المحامي والحقوقي سعد الدين مخلوفي إلى إشكالات رافقت تطبيق قانون الإجراءات المدنية والإدارية قبل سنوات في وقت تُحرر غالبية الوثائق بالفرنسية، بما فيها فواتير الكهرباء والغاز والماء والهاتف إلى الشهادات الصادرة عن الطب الشرعي، الذي ينتمي جزء منه إلى الهيئة القضائية، فأصبح يطلب المحامي بموجب القانون من المتقاضي ترجمة وثائق رسمية إلى العربية.
وأضاف مخلوفي في تصريحه لـ «الحياة» أنه من الغريب أن تبقى الإدارة العمومية «مفرنسة» ويطلب بعدها من المواطن ترجمة كل شيء عند لجوئه إلى القضاء، علماً أن ترجمة الوثائق القانونية لا تكون بأسلوب أدبي وإنما تتطلّب إتقاناً لمصطلحات قانونية لئلا يحرّف المضمون.
وحالياً يرجع المحامون الملفات القضـــائية التي تضم وثائق محررة بالفـــرنسية إلى موكليهم كي يترجموها إلى العربية، كخطوة قبل التقدّم بدعاوى أمام القضاءين الإداري والمدني.
ويقود هذا الواقع إلى خلفيات استمرار مواصلة الإدارة العامة في مختلف القطاعات إصدار وثائقها بالفرنسية، وإحباط محاولات تعميم استخدام لغة الضاد. وفي هذا الإطار، يحمل الدكتور عثمان سعدي رئيس الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية النخبة الفرانكوفونية النافذة في الدولة مسؤولية تجميد قانون تعميم استعمال العربية، الذي صدر عام 1990. وقال أن ما يسمى بـ «اللوبي الفرانكوفوني» أنهى مهام الرئيس الشاذلي بن جديد (1978-1991) لأنه وقّع قانون تعميم استعمال اللغة العربية، وأنهى مهام الرئيس اليامين زروال (1994-1998) لأنه ألغى تجميد هذا القانون.
وعلى رغم عدم انتماء الجزائر رسمياً إلى مجموعة الدول الفرانكوفونية، إذ اكتفت بصفة عضو مراقب في قمة بيروت عام 2008، لكنها تبقى أكبر دولة فرانكوفونية في العالم. وذلك وفق دراسة فرنسية نشرتها صحيفة «ليبيراسيون» أخيراً، وجاء فيها أن ثلث سكان الجزائر ممن يتقنون القراءة والكتابة يستخدم الفرنسية.
وكرّس انضــمام الجــزائر إلــــى مبادرة الشراكـــة من أجل المتوسط بعد زيارة الرئيس السابق نيكولا ســـاركوزي عام 2008، وجود «لغة موليير» وتغلغلها.
فوضى الهوية
وغير بعيد من الإدارة، يرى مراقبون أنه بعد «اغتيال» مشروع التعريب، ابتعد الشارع الجزائري عن استخدام العربية، حتى وجد الجزائري نفسه وسط «فوضى الهوية»، يتحدّث بلغة غريبة، تختلط فيها العامية بالفصحى والفرنسية والإنكليزية. وصار مقتصراً تداول العربية الآن على مستوى النخب في بعض المحافل السياسية والإعلامية.
وتكفي جولة قصيرة في إحدى المدن الجزائرية لتعكس مدى «التخبّط» بين لغات عدة، في لافتات خطّت بحروف عربية ومعنى فرنسي، مثل محل «فاست فود» (أكلات خفيفة أو سريعة)، وآخر كتب على مدخل محله «هنا يوجد فليكسي» أي تعبئة وحدات رصيد مكالمات للهاتف الخليوي، فضلاً عن شواهد أخرى تبيّن ارتكاب أخطاء فادحة عند الكتابة بالعربية على اللافتات الرسمية. فمثلاً على الطريق السريعة كتب «ولاية... ترحب بضيفه الكرم» بدل ترحب بضيوفها الكرام.
أما في المؤسسات المصرفية ومراكز البريد، لا تزال عُقدة ملء الصكوك باللغة الفرنسية تلازم غالبية الجزائريين حتى ولو ارتكبوا أخطاء.
ولا يساور أدنى شك اختصاصيين في علم الاجتماع، في عمق أزمة اللغة، التي تعيشها مكوّنات المجتمع، إذ تتحمّل المدارس والجامعات مسؤولية التدهور اللغوي الكبير الحاصل في عمق المجتمع الجزائري. فلم يعد الأساتذة يفرضون علـــى التلامذة والطلاب التحدّث باللغة العربية داخل الصفوف، بينما يفضّل أساتذة كثر استخدام اللهجة العامية بدل العربية أثناء شرحهم الدروس. ويقسّم اختصاصيون المجتمع الجزائري إلى ثلاث فئات: فئة تجيد الحديث بالفرنسية وهو جيل الاستعمار، والثانية تتقن العربية والفرنسية، أي جيل ما بعد الاستقلال، وفئة ثالثة وهي الجيل الحالي تتحدّث باللهجة المحلية الدارجة.
وأمام صراع العربية – الفرنسية، تبرز الإنـكــليزية كبديل عن «لغة موليير» خصوصاً مع مطالب قوى مدنية باعتـــمادها في الإدارات والحياة العامة. وقـــد عمـــدت مقار وزارة الدفاع وجامـــعات إلى إبدال الاسم الأجنبي على واجهــــاتها من الفرنسية إلى الإنكليزية، فـــي خطــــوة تحمل رموزاً عدة، ما يعدّ تحــوّلاً آخر يندرج ضمن الصراع السياسي في هرم السلطة بين «الجناح» الكلاسيكي الفرنسي ونظيره الأنغلوسكسوني.
الحياة