|
|
اللغة العربية أساس حضاري
أ. بوزيد
تُعد اللغة العربية من أشرف اللغات الإنسانية في العالم ، وهذا ليس في ذاتها فحسب ولا لكونها حاضنةً للعلوم والمعارف المختلفة التي كانت سائدة في الحضارة العربية الإسلامية ، وإنما كونها معبرة لكلام الله – عزوجل – وكلام نبيه - صلى الله عليه وسلم – لقوله تعالى : " نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ "
{ سورة الشعراء ، الآية 195} ،
وقوله تعالى : " الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " { سورة يوسف ،الآية 02}
وقوله تعالى : "حم والْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " { سورة الزخرف ،الآية 03 } وهذا العامل الجوهري الذي أكسبها هذا الشرف وهذه المكانة المرموقة على غيرها من اللغات .
واللغة العربية في أصولها وجذورها نجد أنها تنتمي – طبقا لرأي علماء اللغة المحدثين – إلى عائلة اللغات السامية وقد أطلق عليها هذا الوصف العالم الألماني " شلوتزر " في أواخر القرن الثامن عشر ميلادي وقُصد به أن يكون تسميةً مشتركة للغات الشعوب الآرامية، والفينيقية ، والعبرية ، والعربية ، والبابلية و الآشورية وما انحدر منها بعد أن ثبت ما بين هذه اللغات من صلات قرابة وأوجه تشابه في أصواتها وصرفها ومعجمها .
ومن نماذج هذا التشابه في المفردات مثلا : كلمة " ماء " في العربية هي في الأثيوبية " ماي " وفي الأكادية " مو " وفي الأوغاريتية " مو " وفي الآرامية " ميًّا " وفي العبرية " مَيم " ...الخ
كما أن اللغة العربية تُعرَّفُ لغة : من كلمة" لغوة " على وزن فُعلة نقول : لغوت أي : تكلمت ولغوت باللغة ككروت بالكرة وقيل : معناها لغي يلغى إذا هذى ومصدره " اللغا "
كقول الشاعر : ورب أسراب حجيج كظم **** عن اللغا ورفث التكلم {الخصائص،ص33 }، وقد جاء في" لسان العرب " قول الأزهري : " واللغة من الأسماء الناقصة وأصلها لُغوة من لغا إذا تكلم "
وقال الكسائي : "لغا في القول يلغى ، وبعضهم يقول : يلغو ولغي يلغى ، لغة ، ولغا يلغو لغوا إذا تكلم " { لسان العرب ، الجزء 15 ، ص 250/251 } .
اصطلاحا : نجد أن أبا الفتح عثمان بن جني ( ت 392 ) عرفها بقوله : " أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم " { الخصائص ، ص 33}
أما مصطلح الحضارة فقد جاء في لسان العرب لغة:من الحضور: نقيض المغيب والغيبة، حضر يحضر حضوراً وحضارة ويُتعدى فيقال: حضره، يحضره وهو شاذ.
والحَضَرُ: خلاف البدو، والحاضر: خلاف البادي. وفي الحديث قوله – عليه الصلاة والسلام -:" لا يبعْ حاضرٌ لباد"، والحاضر: المقيم في المدن والقرى، والبادي: المقيم بالبادية " { لسان العرب، الجزء الرابع، ص 196/197}.
واصطلاحا: فقد نجد أن مصطلح " الحضارة " ينقسم إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: ما يخدم الجسد ويمتعه من وسائل العيش، وأسباب الرفاهية والنعيم، ومعطيات اللذة للحس أو للنفس.
ويدخل في هذا الصنف أنواع التقديم العمراني والزراعي والصناعي والصحي والأدبي والفني، والتقدم في الإنتاج الحيواني، واستخراج كنوز الأرض، والاستفادة من الطاقات المنبثة فيها، وما أشبه ذلك. ويدخل ضمن هذا جميع أنواع العلوم والمعارف التي تخدم هذا الصنف.
الصنف الثاني: ما يخدم المجتمع الإنساني، ويكون من الوسائل التي تمنحه سعادة التعاون والإخاء والأمن والطمأنينة والرخاء، وتمنحه سيادة النظام والعدل والحق، وانتشار أنواع الخير والفضائل الجماعية.
و يدخل في هذا الصنف أنواع التقدم الاجتماعي الشامل للنظم الإدارية، والحقوقية، والمالية، والأحوال الشخصية، والشامل للأخلاق والتقاليد والعادات الفاضلة، وسائر طرق معاملة الناس بعضهم بعضًا في علاقاتهم المختلة.
الصنف الثالث: ما يأخذ بيد الإنسان فردًا كان أم جماعة إلى السعادة الخالدة التي تبدأ منذ مدة إدراك الإنسان ذاته والكون من حوله، وتستمر مع نفسه وروحه الخالدتين إلى ما لا نهاية له في الوجود الأبدي، الذي ينتقل من حياة جسدية مادية يكون فيها الابتلاء، إلى حياة نفسية روحية برزخية يكون فيها بعض الجزاء، ثم إلى معاد جسدي نفسي وروحي يكون فيه كامل الجزاء.
ويدخل في هذا الصنف أنواع التقدم الفكري القائم على التأملات الحكمية، التي توصل الإنسان إلى معرفة الخالق، وسر وجود الإنسان، وغايته ومصيره، وواجبه في الحياة الدنيا، وسبل سعادته الأبدية الخالدة, وهي الأمور التي تحمل اسم المعتقدات والواجبات الدينية وسائر التكاليف والآداب الشرعية الإسلامية . ومن هنا نستشف مبدئيا أن اللغة العربية تتكامل مع هذه الأصناف الثلاثة، فالصنف الأول يرتكز على البحث في أوجه الإعجاز في القرآن الكريم سواء المتعلق بالجانب العلمي أو الفلكي أو العددي أو الفيزيائي أو البياني .
والصنف الثاني يتكامل مع اللغة العربية من حيث حسن اختيار الألفاظ والكلمات التي تساهم مساهمة بناءة في المعاملة الطيبة بين الناس مما يؤدي بذلك إلى انتشار روح الأخوة والتعاون والعدل والفضائل الاجتماعية .
أما الصنف الثالث فإنه يتكامل مع اللغة العربية بدءاً من مسميات الكون المحيطة بالإنسان ( الأرض ، السماء ، الكواكب ....الخ ) والتي تأخذ به إلى التدبر والتعمق في آيات الله – عز وجل – في الكون مما يؤدي بالإنسان إلى تحقيق عبوديته وخشوعه لله - عز وجل – وتزكية نفسه وروحه وتطهيرها من كل أنواع الذنوب والخطايا . وهذا الصنف هو جوهر التكامل مابين اللغة العربية والحضارة الإنسانية. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى نجد أن اللغة العربية قد اكتست أهمية بالغة ميزتها من لغات العائلة السامية نظرا لعاملين رئيسين:
1/ أنها نشأت في أقدم موطن للساميين ( وهو الجزيرة العربية في أرجح الآراء ) . وترجع أصول العربية الفصحى إلى العدنانيين الذين كانوا يقطنون شمالي الجزيرة العربية ، وهي تختلف عن عربية الجنوب التي عُرفت بالحميرية ، وكان يتحدث بها القحطانيون ، وأقدم نص عثر عليه مكتوبا بالعربية الفصحى يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد ، وهو" نقش النمارة "
2/ أن الموقع الجغرافي لهذا الموطن قد ساعدها على تمتعها بالاستقلال ومن ثم قل احتكاكها بجاراتها وتأثرها بهم ، وهي اللغة الفارسية من الشرق ، والآرامية من الشمال ، والحبشية من الجنوب . ولذالك احتفظت اللغة العربية بأكبر قدر من مقومات اللسان السامي الأول وبقي فيها من تراث هذا اللسان ما تجردت منه أخواتها في النسب ومن ثم تفردت عنهم بجملة من الخصائص أهمها :
• اشتمالها على جميع الأصوات التي وردت في أخواتها الساميات وزادت عنها بأصوات لا وجود لها في واحدة منها مثل : الثاء و الذاء و الظاء والعين الضاد
• أنها أوسع وأدق من أخواتها في مجالي النحو والصرف
• أنها أوسع أخواتها ثروة في أصول الكلمات والمفردات .
وقد أكد " بروكلمان " أن اللغة العربية تفترق عن غيرها من اللغات السامية في احتفاظها الكامل بالأصوات الأصلية الغنية كأصوات الحلق وأصوات الصفير المختلفة ،كما أنها احتفظت احتفظا تاما بالحركات القديمة ثم إن طريقة بناء الصيغ في السامية الأولى توجد في أرقى مراحل تطورها ، وقد أيد كل من " نيكليسون و أوليري " هذا الرأي مؤكدين أن اللغة العربية هي أصفى اللغات السامية ، وأقربها إلى النبع السامي الأول لذلك فإن أي بحث أو دراسة في فقه السامي الأول ينبغي أن ينطلق منها ، ولاغرو إذن أن صمدت اللغة العربية وحدها تجابه أعدائها في حين بادت سائر اللغات عائلتها إلا بقايا لا تكاد تُذكر ومنها الآرامية والسريانية التي تتحدث بها نسبة ضئيلة جدا من سكان سوريا .
ومن هذا المنطلق الأساسي الذي ارتكزت عليه اللغة العربية أضفى ديننا الإسلامي الحنيف عليها – كونها لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف – دفعا قويا إلى تعلمها وتعليمها الذي يُعد هو الوسيلة الأولى لبناء الحضارة الإسلامية بناء واقعيا في كل مجال من مجالاتها،
ففي كنوز النصوص والتطبيقات الإسلامية ثروة ضخمة تعلن هذه الحقيقة بإلحاح وتأكيد شديدين.
فمنها حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي كلها مدرسة تعلم وتعليم كبرى، منذ أول ما بدئ به من الوحي، حتى آخر نفس لفظه من رحلة الحياة الدنيا، إذ توفاه الله.
فأول ما بدئ به من الوحي قول الله تعالى في سورة "العلق: الآية01:
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
ولما اشتد به وجعه قبيل وفاته صلى الله عليه وسلم قال:
"ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده ".
رواه البخاري عن ابن عباس.
وعلمنا ما يقوله المحتضر إذ كان يقول صلى الله عليه وسلم وهو في حالة الاحتضار:
"اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى".
ويقول:
"اللهم أعني على غمرات الموت وسكرات الموت".
ومن النصوص التي حث فيها الرسول صلى الله عليه وسلم على التعلم والتعليم النصوص التالية:
1/ قوله فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: "ومن سلك طريقًا يلتمس به علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة".
2/ قوله أيضًا:
"من دعا إلى هُدًى له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا". رواه مسلم وغيره.
3/ وقوله أيضًا: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"..
4/ لما خطب صلوات الله وسلامه عليه في حجة الوداع قال فيما رواه البخاري عن أبي بكرة: "ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه".
أي: أكثر فهمًا واستيعابًا لمعاني ما يبلغه من الذي سمعه مباشرة من الرسول - صلى الله عليه وسلم-.
5/ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع".
6/ وعن أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير"
7/ وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما صنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر"
فلهذه الحجج الدامغة وغيرها هبَّ علماء حضارتنا الإسلامية إلى تحصيل العلوم والمعارف المختلفة حيث إن من المعارف ما يُكتسب عن طريق استخدام الحواس الظاهرة بشكل مباشر، ذلك لأن في الوجود أشياء تشاهد ألوانها وأشكالها وأحجامها بحاسة البصر فتعرف، وفيه أشياء تشم أو تذاق فتعرف، وأشياء أخرى يحسها اللمس فتعرف، وفي الوجود أيضًا مدركات يشعر بها الإنسان في جسده أو في نفسه أو في فكره كاللذة والألم والحب والكراهية، والميل والنفور، والمسرة والكدر، والتفكر والتذكر والتخيل فيعرفها.
ومن المعارف ما يُكتسب عن طريق التأملات الفكرية، واستنتاج حقائق غير مدركة بالحواس، بوساطة استخدام الحقائق المدركة بها استخدامًا فكريًّا مجردًا،كاستنتاج وجود القوة الكهربائية من رؤية المصباح الكهربائي مضيئًا، أو رؤية الآلة الكهربائية تتحرك وتعمل، وكاستنتاج وجود القوة المغناطيسية من مشاهدة ظاهرة الجذب المغناطيسي، وكاستنتاج وجود الحياة والقوة الممدة لها من مشاهدة حركة الجسم حركة إرادية.
ومن المعارف ما يُكتسب عن طريق النقول والأخبار الصادقة، التي تشهد العقول بصدقها، أو تحكم برجحان ذلك.
ومن المعارف ما يُكتسب عن طريق الوحي الذي يصطفي به الله أنبياءه ورسله.
وهكذا تتعدد طرق اكتساب المعارف في حياة الناس.
والإنسان منذ بدء تكوينه يكون صفحة بيضاء خالية من أية معرفة سابقة، إلا أن فيه استعدادًا لاكتساب المعارف، ثم تبدأ واردات المعارف والعلوم تتجمع فيه منذ بدء حياته على الأرض، مارًّا بتجارب كثيرة تلامس أدوات المعرفة المنبثة في جسده، وتسمح لعقله بعد مدة مناسبة من نضج التجارب بأن يسبح في عالم التأملات.
هذه الحقيقة من حقائق الإنسان قد أعلنت عنها آية كريمة في سورة النحل، الآية 16 في قوله تعالى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
أما قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}.
فإعلان عن نقطة بدء المعارف التي يكتسبها الإنسان في حياته، بعد أن كان خاليًا من أية معرفة، وعندها يبدأ شريط تسجيل المعارف يتحرك بعد أن يستهل الولد صارخًا عند ولادته.
وأما قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} .
فإشارة إلى أدوات المعرفة التي زود الخالق بها الإنسان وأهمها السمع والبصر والفؤاد، والفؤاد هو القوة العاقلة في الإنسان، ومركز التفكير الذي تسجل فيه العلوم. ومن الأمور البديهية أن الله تبارك وتعالى لم يمنحه هذه الأدوات إلا من أجل أن يستعملها فيما خُلقت له.
وأما قوله تعالى في آخر الآية:
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
فهو إعلان عن الغاية من منحه أدوات المعرفة، وتفضيله بها على كثير ممن خلق، ولن يتحقق شكر الإنسان لله على ما وهبه من نعم ما لم يتابع سيره في طريق المعرفة والعلم، دون انحراف أو شذوذ؛ لأنه متى استخدم هذه الأدوات، وسار ضمن منهج فطري سليم فإنه لا بد أن يصل إلى معرفة خالقه، ومعرفة ما أنعم به عليه، ومعرفة ما يجب عليه نحوه من شكر.
فالمراحل لا بد أن تتابع وفق خطوات البحث العلمي، وبعد ذلك يأتي تحقيق واجب الشكر بالعمل على ما يرضي الله، تطبيقًا لما توصلت إليه المعرفة، التي استخدمت فيها أدواتها.
وهذا كله انطلاقا من الآية الكريمة التي عبر بها القرآن الكريم باللغة العربية الفصيحة، ومما يضفي إلى هذا تأكيدًا ووضوحًا وإشراقًا هو ذلك الأثر العلمي والمعرفي البالغ الذي أحدثته اللغة العربية في الحضارة الأندلسية حيث أسس العرب في الأندلس الكتاتيب لتعليم الصبيان اللغة العربية وآدابها ومبادئ الدين الإسلامي، على غرار نظام الكتاتيب في المشرق العربي واتخذوا المؤدبين يعلمون الأولاد الضعفاء والمساكين اللغة العربية ومبادئ الإسلام .
أما المناهج الدراسية في الأندلس فقد أشار إليها "ابن خلدون"(ت 808) بقوله: "وأما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتابة وجعلوه أصلاً في التعليم فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم الولدان رواية الشعر، والترسل وأخذهم بقوانين العربية وحفظها، وتجربة الخط والكتابة... إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة وقد شد بعضا لشيء في العربية والشعر وأبصر بهما، وبرز في الخط والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة " ، واهتم الخلفاء في الأندلس بتأسيس المكتبات فنقلت الكثير من الكتب وشارك الرحالة من الأندلسيين في ذلك وقام العلماء والطلاب في نقل الكتب وأقبلوا على ترجمتها من اللغة العربية في مختلف صنوف العلم والمعرفة فيذكر" ابن جلجل": أن الكتب الطبية دخلت من المشرق وجميع العلوم على عهد الخليفة الناصر سنة300 ه .
كما ألف الأندلسيون في علوم القرآن والحديث والفقه، وفي القضاء واللغة وآدابها وعلومها والمعاجم والتراجم، والتاريخ والسيرة والجغرافيا، وألفوا في علوم الطب والحساب والهندسة والفلك والكيمياء والمنطق والفلاحة والملل والنحل، وفي الفلسفة والموسيقى، بحيث لم يتركوا حقلاً من حقول العلم والمعرفة إلا طرقوه. وقد برز جملة من العلماء نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر منهم "عبد الملك بن حبيب السلمي" ( ت238 )ألف كتابه الموسوم التاريخ مخطوط ومحفوظ في مكتبة البودليانا في أكسفورد تناول فيه تاريخ العالم من بدء الخليقة حتى فتح الأندلس وإلى عصره هو، والعالم اللغوي" أبو علي القالي" الذي وفد على الأندلس في أيام "عبد الرحمن "الناصر سنة 330ه وأصله من العراق، ومن أهم أعماله كتاب" الأمالي"وهو عبارة عن محاضرات أملاها على تلاميذه الأندلسيين في مسجد قرطبة، ويتضمن فصولاً عن العرب ولغتهم وشعرهم وأدبهم وتاريخهم وألف" أبو بكر محمد المعروف بابن القوطية "ت 367 ه) كتابًا في تاريخ الأندلس أسماه" تاريخ افتتاح الأندلس" نشره المستشرق الأسباني" جوليان رايبيرا" سنة1868، وله كتاب في النحو يعرف بكتاب" الأفعال" ومن شيوخ ذلك العصر العالم المغربي "محمد بن حارث الخشني "(ت361 ه)) الذي ألف كتاب القضاة بقرطبة) تناول فيها الحياة الاجتماعية في الأندلس نشره المستشرق الأسباني" ريبير" وألف "ابن حزم "
العديد من الكتب في أنساب العرب، وفي علماء الأندلس، وفي تاريخ الأديان وأبرز ما
أُلف في هذا المجال هو كتاب" الفصل في الملل والأهواء والنحل "
ومما ساعد على انتشار الكتب وازدهار الحياة العلمية انتشار صناعة الوراقة في الأندلس حيث تولى الوراقون نسخ ما يظهر من مؤلفات، كما اشتهرت الأندلس بمصانع الورق، وتميزت بهذا الإنتاج بعض المدن مثل" غرناطة وبلنسية وطليطلة، وشاطبة"، وقد حاز مصنع شاطبة شهرة واسعة في صناعة الورق الجيد. وقد نقلها مسلمو الأندلس من بغداد التي أنشئت عام794 م كما انتقلت منها بواسطة مسلمي صقلية والأندلس إلى أوربا .
واتجه أهل الأندلس الذين اعتنقوا الإسلام خاصة إلى تعلم اللغة العربية وإلى إقبالهم على تعلم العلوم الإسلامية، واتسع بمرور الزمن عدد الداخلين في الإسلام وأخذ طلاب العلم يرتحلون بشكل خاص إلى الجامعات الإسلامية في الأندلس والاختلاط بالسكان مما ساعد على انتشار اللغة العربية، ونتج عن ذلك ظهور لغة عربية عامية دخلتها بعض الكلمات الأسبانية ،كما نتج عن انتشار اللغة العربية بين الأندلسيين اختراع فن شعبي أندلسي جديد هو فن "الموشحات " ويقال: إن مخترع هذا الفن رجل ضرير من بلدة "قُبرة " بجوار قرطبة اسمه "مقدم بن معافى " القبري الذي عاش في أواخر القرن الثالث للهجرة التاسع للميلاد ويعتبر هذا الفن الجديد ثورة في الشعر العربي .
وإذا كان المشرق العربي قد أعطى مغربه فن القصيدة الشعرية، فإن المغرب العربي، وهو الأندلس ، قد أعطى المشرق العربي فن " الموشح " ويلاحظ في الموشح أنه لم يلتزم بنظام القوافي الموحدة كالقصيدة الشعرية، وإنما اشتمل على قوافي متعددة كذلك لم تكن وحدة البيت الشعري، وإنما المقطوعة الشعرية التي تتكون من غصن وقفل، ويسمى القفل الأخير بـــ"الخَرجة"، والتي تكون عادة باللغة العامية الدارجة، ولم يلبث هذا الفن الجديد أن انتشر في المغرب والمشرق، وتفنن الشعراء في صياغته حتى صارت الموشحة كالقصيدة الشعرية.
وبالتالي فهذه حجج وأخرى دامغة وداحضة للفكر الذي يزعمه شرذمة من الناس من أن اللغة العربية لغة تخلف رجعي . وهذا الفكر العكر ناتج عن سببين اثنين:
1/ الجهل الدامس بالحضارة العربية الإسلامية والعطاء المشرق بالعلوم والمعارف الذي قدمته .
أو:2/ أن هذه الشرذمة انسلخت من أصولها العربية الإسلامية وصارت خاضعة في ملحقات المناهج الغربية ومنفذة للأهداف التي تخططها.كقول الشاعر: على لسان اللغة العـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــربية :
يـــــا أيها العربي مجدك ساطــــع ***** مادمت تنهل موردي وبيانـــــــــــــي
مـــــــــــاضرني قومي تناسوا قيمتـــي **** أو ضرني عتقي وطول زمانــــــــــــي
فـــــــلقد شرفت على اللغات جميعها **** لغة الجنان ومنطق القـــــــــرآن
ونـــــزلت منزل الحبيب بقلبكــــــــــــم ***** حتى وطرت بكم قرى الطغيــــــــان
كــــــــــم حاولوا قتلي وخفض سيـــــــــــادتي **** لكنني شمسٌ مدى الأزمـــــــان
- وفي الأخير أرى أنه مادامت اللغة العربية لغة القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي هو محفوظ بقدرة الله – عز وجل – لقوله تعالى : " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " { سورة الحجر،الآية 09} ومادام أنه كلام الله الذي لا تنقضي عجائبه أبدا،فإن اللغة العربية تبقى وإلى الأزل لغة تطور وازدهار ورقي وحضارة راسخة في أفكار الدارسين بها والباحثين في دررها وكنوزها وثروتها الزاخرة بكل أنواع البيان وألوان البديع،فمهما حاول أعداء الإسلام القضاء عليها إلا أنها لازالت صامدة إلى يوم الدين بإذن الله حتى في المستقبل الأخروي كونها لغة أهل الجنة وفي هذا الصدد يقول الشاعر :
أنا البحر في أحشائه الدر كامن *** فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
وسعت كتاب الله لفظا وغايــــــــــة *** وما ضقت عن آي بــــــــــــــــــه وعــــــظات
فكيف أضيق عن وصف آلــــــــــــة *** وتنسيق أسمـــــــــــــــــــاء لمخترعـــــــات
ويقول " أبو منصور الثعالبي " :
من أحب الله تعالى
أحب رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم
ومن أحب رسوله العربي
أحب العرب
ومن أحب العرب
أحب العربية
التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب
ومن أحب العربية
عُني بها وثابر عليها
وصرف همته إليـــــــــها .
|
|
|
|
|