للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي الحادي عشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

عصا المدرّس لمن يخون العربية

أ. جوان سوز

 

لم يكن لديّ أي صلة باللغة العربيّة قبل دخول المدارس الحكومية السورية، كنا جميعاً، أنا والأهل، نتواصل باللغة الكُرديّة في البيت والقرية والمدينة كلّها، لم يكن لدي أصدقاء من العرب كما الآن أيضاً. العربي الأول الّذي عرفته، كان صديق جدي من قرية مجاورة لقريتنا، لكنه كان يجيد اللغة الكُرديّة مثلي وأفضل، بل ويتكلم بها مع جدي الّذي يتكلم اللغة العربية بركاكة شديدة. حتى إنه لم يخطر في بالي يوماً أن أسأل أمي عن اللغة التي تتمتم بها في صلاتها، لأعرف في ما بعد أنها اللغة العربية وأن تلك المرأة الريفية، التي هي أمي، لا تعرف ماذا تقرأ في صلاتها! ذلك أنها لا تجيد اللغة العربية، لا قراءة ولا كتابةً ولا محادثةً، وهي كذلك حتى الوقت الراهن.

في سنتي الأولى من المدرسة الابتدائية، كانت المفاجأة كبيرة. هناك زملاء يتكلمون لغة لا أعرفها، لكن الفرق بين تلك اللغة واللغة التي كان صديق جدي يتكلم بها وكانت أمي تتمتم بها في صلاتها أنه ينبغي عليّ أن أتعلّمها رغماً عني وأن أنسى لغتي الكُرديّة التي ولُدت وأنا أتكلم بها. على مقاعد الدراسة، كان المدرّس القادم من مدينة السويداء في أقصى الجنوب السوري إلى أقصى الشمال السوري، يملك عصا طويلة، يضربني بها كلما وجدني أتكلم باللغة الكُرديّة مع بعض الزملاء الّذين كانوا غالبيتهم كُرداً، حتى إنه في بعض الأحيان كان يضع قلماً بين أصابعي ويغلقها بسرعة كبيرة... كانت تلك الحركة تؤلمني كثيراً، لكن ما باليد حيلة، عليّ أن أتعلم اللغة العربية من دون مقدمات، كي استمر في تعلمي.
أحد الزملاء رسب في الصف الأول وتعلّم بعضاً من اللغة العربيّة، ويمكنني أن أشبّه حاله بحال لاجئٍ سوري يعيش في أوروبا الآن ويجيد شيئاً من الألمانية أو الفرنسية في عام لجوئه الأول، يتدبر بها أموره اليومية. كان ذلك الزميل كذلك، ويساعدني في التواصل مع المدرس الّذي لم يكن لديه أدنى رغبة في سماع كلمة كُرديّة واحدة. بمجرّد أن كان يتكلم الزملاء بها، كان الضرب ينهال عليهم. كان لنا أيضاً زميل كُردي آخر، يجيد اللغة العربية أكثر من زميلي الأول، وصار بالنسبة إلي «المترجم المُحلّف»، ذلك أن بعض العرب كانوا يعيشون في قريته وهم «عرب الغمر» الّذين جلبهم النظام السوري إلى المناطق الكُردية في سورية بهدف التغيير الديموغرافي آنذاك، فكان ذلك سبباً لتعلّمه اللغة العربية قبل دخوله إلى المدرسة. ربّما كان ذلك الزميل محظوظاً في هذا الأمر الّذي خفف عنه عقاب ممارسة الحديث بلغته الأم.
استمرت معاناتي تلك مع اللغة العربيّة حتى الصف الثالث الابتدائي، بينما في السنوات الأولى من دراستي تعلّمت الكتابة والقراءة باللغة العربية، لكن لم تكن لدي فرصة التحدث بها. كانت رغبتي شديدة جداً في عدم تعلم اللغة العربيّة، أو عدم كسب هذه اللغة التي تعلمتها بالإهانة وهي في الأصل ليست لغتي الأم، لكن الظروف كانت أكبر مني، وتجاوزت هذه المعضلة وصرت أتكلم اللغة العربية بطلاقة وأنا كذلك إلى الآن، بينما تعلّمت اللغة الكُرديّة كتابةً وقراءةً وأنا في الحادية عشرة من عمري في شكلٍ سرّي، وهي سنٍّ صغيرة لتعلم اللغة الكُردية مقارنة بذلك الجيل الّذي كان يُمنع من القراءة والكتابة بلغته الأم المحظورة في بلدٍ من المفترض أنه بلده!
ما سبق في الأعلى من مذكرات مؤلمة، كانت مناسبة الحديث عنها، جلسة حوارية بيني وبين شاعرٍ سوري متزوج من امرأة أوروبية، قال لي بألمٍ كبير: «ليت زوجتي، تعرف ماذا أكتب عنها في قصائدي باللغة العربيّة». جملة صديقي الشاعر السوري العابرة تلك ذكرتني بنصوصٍ طويلة كتبتها باللغة العربيّة لأمي قبل سنوات، لكن أمي لم تعرف إلى الآن ماذا كتبت لها على رغم كل محاولاتي لترجمتها إلى اللغة الكُرديّة من أجلها. حتى أنني كتبت ذات مرة أن وجعي يكون شامخاً بالكُرديّة وقزماً بالعربيّة، لكن يبدو أن ألم الترجمة أكبر بكثير من ألم اللغة الأصل، بخاصة إن كان كاتبها قد تعلّمها مرغماً كما هو حال الكُرد في سورية الّذين عليهم الآن ألا يعلّموا أولادهم غير لغتهم الأم واللغات الأجنبية الأخرى الّتي قد تلزمهم مستقبلاً في الدراسة أو السفر.
 

الحياة

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية